في "منتصف ليل باريس " .."وودي الان" يعلمك كيف تصبح وحشا جميلا


أسامة صفار
محظوظة تلك المدينة التي يحبها "وودي الآن" حتي لو كانت ملهمة لآلاف المبدعين قبله وبعده ومعشوقة الملايين حول العالم , فلن يستطيع أي منهم تخليدها أو التقاط تجلياتها الأجمل كما فعل المخرج والموسيقي والسيناريست الأمريكي ورغم ذلك فانه بعد مشاهدة فيلم " منتصف ليل باريس " من الأفضل الحديث عن "وودي الان " الطفل الأكثر بساطة من غيره بكل براءته وشقاوته وتوحشه وتجاوزه لكل قوانين الحكماء والعقلاء ومن ثم جمال وعبقرية ما أنتجه من معني ومشاهد تذوب عشقا ليس في باريس وحدها ولكن في حرية أن يختار كل انسان زمانه ومكانه الخاصين والمفضلين ليقيم فيهما أو بالحد الأدني يزورهما وقتما يشاء ولكنه وبينما يطلق حرية اختيار تتجاوز الالتزام بالزمان والمكان يضرب فكرة الحنين في مقتل اذ يطرح الفكرة الأكثر صدقا والصادمة لأولئك الرومانسيين الحالمين بالميلاد في زمن سابق حين تشير "عشيقة بيكاسو " للبطل الذي يلتقيها في عشرينات القرن الماضي باعتباره عصرا ذهبيا له الي أن العصر الذهبي بالنسبة لها والأولي بالحياة فيه هي بدايات القرن العشرين حيث عاش بول جوجان .. وهكذا يخرج بنا وودي الان من اجماع علي جمال باريس في منتصف ليل عشرينات القرن العشرين الي نسبية الزمن الجميل لكل جيل باعتباره دائما الزمن السابق عليه ليصل الي بنية أكثر عمقا في اللاوعي الانساني تتعلق بالشوق لما مهد لوجوده من أدب وفن وجمال مختلف عن ذلك الذي يعايشه ناضجا .
كبر المخرج الأمريكي وودي الان واقترب من الخامسة والسبعين لكنه بروح الطفل ذاتها يعود الي حيواته السابقة والمحطة الأبرز فيها وهي ذلك الفيلم – التحفة " زهرة القاهرة القرمزية – 1985 " لا ليكرر ما قدمه من قبل باعتباره حقق نجاحا لم يكن الان يحلم به ولكن ليعيد صياغة الفيلم بشكل ومضمون يتناسبان مع ما بلغه من نضج وحرفية ويتناسبان مع زمن لم يعد هو الزمن الذي كان .





والثابت في الفيلمين أن ثمة مشكلة تتعلق بالزواج والارتباط الشخصي تواجه البطل وبينما تهرب بطلة "زهرة القاهرة القرمزية " – قدمت دورها ميا فارو- من واقع كونها متزوجة من عاطل لا يريد العمل ويعتمد عليها في جلب المال ليلعب به القمار في زمن الكساد الأمريكي وفي الوقت ذاته يعتدي عليها بالضرب عند أبسط اختلاف فان بطل "منتصف ليل باريس " -وبطله أوين ويلسون – يهرب من التورط في زيجة لا يجمع بينه وبين خطيبته فيها سوي الجسد ويختلفان في كل ما عدا ذلك فهي لا تؤمن بموهبته كروائي وتفضل عليها استمراره في جلب المال عبر كتابة السيناريوهات التافهة لهوليوود وبينما تدور أحداث الفيلم الأول في مدينة نيويورك المنكوبة بالكساد في القرن الماضي فان الفيلم الثاني يدور في باريس 2010 حيث يقضي الخطيبان أجازة هناك
ويتأمل "وودي الان " في زهرة القاهرة القرمزية " حالة التوحد مع البطل أوالوقوع في عشقه كشخص خيالي مطروح لحل أزمة الزوجة التعيسة التي لا توجد في حياتها لحظة سلام سوي تلك التي تقضيها في قاعة السينما فتشاهد الفيلم الواحد لخمس مرات متوالية وهو ما يؤثر في بطل الفيلم الذي تشاهده فيخرج اليها عبر الشاشة ويتورط فريق الفيلم متوقفا عن استئنافه بينما يهرب البطل مع بطلة وودي الان الي حيث الأفق الأكثر رحابة من دور مرسوم بيدي وخيال سيناريست وان تعامل بروح الشخصية التي أبدعها الممثل الحقيقي والكاتب .

في " منتصف ليل باريس " لدينا بطل رجل يعيش الأزمة نفسها مع فارق بسيط يوضحه الأداء والحركة داخل الكادر التي رسمها الان بدقة ليؤكد علي اختلافه مع محيطه سواء في تعاطيه مع الحياة أو في ردود أفعاله تجاه سلوك الاخرين وخاصة والدا خطيبته اللذان يشكان في قدراته العقلية وفي الأماكن التي يرتادها فهو شخص حقيقي تماما بينما الوالدان وصديق الخطيبة وزميلها في الجامعة والذي يتصادف وجوده ويرتبط بهما طوال رحلة الفيلم شخص " متحذلق " تماما وزائف تماما يدعي ويدعي له الاخرون أنه خبير في الفن التشكيلي والرواية وتاريخ الفن والويسكي الفرنسي أيضا ويهرب بطلنا من الصحبة تاركا خطيبته مع الاخرين ليجول في شوارع باريس التي يعشقها ليلا وخاصة في المطر ويبدع الان العاشق في تصوير مدينة الأناقة ويكتشف جمالها الخاص عبر مشاهد شعرية ممتعة ليصل البطل الي منعطف غامض يجاور درجات سلم وتلتقطه سيارة يطلب منه ركابها الصعود اليها ليصل الي حفل يتعرف من خلاله علي كبار كتاب وفناني عشرينات القرن الماضي وأولهم "أرنست همنجواي " الذي يدخله الي عالم المبدعين فيصحبه الي منزل بيكاسو وهناك يتعرف عليه وعلي فيتجرود شتاين وأيضا عشيقة بيكاسو الجميلة والملهمة والفنانة ومصممة الأزياء .. ويفاجأ البطل الذي كان حائرا بسبب عدم ثقته في أي من نقاد عصره لتقييم روايته قبل عرضها علي دور النشر فيعرض علي "هيمنجواي " الرواية لكن المبدع الكبير يرفض ويقرر عرضها الناقدة فيتجرود شتاين مؤكدا أنها لو كانت سيئة سوف تنغص عليه مزاجه وان كانت جيدة جدا سيشعر بالغيرة وبالتالي فمن الأفضل أن يراها ناقد وليس مبدع . 
ويعيش البطل علي التوازي حياته الأخري حيث يعود بعد قضاء سهرته مع الابداع والمبدعين الي الفندق الذي يقيم فيه ويخرج ومع خطيبته ووالدتها لشراء بعض الأثاث لبيت الزوجية يصادف محلا لبيع كل ما هو قديم من ابداعات ومطبوعات وتلفت نظره براءة وصدق البائعة ويشتري تذكارات من هناك ثم يشتري عملا يشبه المذكرات ونكتشف أنه لعشيقة بيكاسو التي يراها البطل ليلا وخاصة بعد انفصالها عن الفنان التشكيلي الكبير ويلجأ لمترجمة فرنسية لقراءة وترجمة المذكرات التي تعترف فيها العشيقة بحبها لكاتب مغمور اسمه "جيل باندر " انه اسم بطلنا الذي يفاجأ أنها تحلم أن يهديها قرط للأذن ويعترف لها بحبه ويسارع الي الفندق ويهم بسرقة قرط خطيبته لكنها تكتشف الأمر وتتهم خادمة الفندق فيعيد القرط بشكل مريب الي مكانه ثم يشتري اخر ويذهب ليلا الي زمنه ويهدي عشيقة بيكاسو القرط وفيما يهم بالاعتراف بحبه تتوقف سيارة لتنقلهما الي أوائل القرن حيث يعيش بول جوجان .. وهناك يرغب في العودة فتقنعه بأنه عصرها الذهبي وأن عليه هو أن يعود . 

تلفت الرواية أنظار الجميع وتنصح الناقدة الكبيرة بناء علي ملاحظة أرنست همنجواي نظر بطلنا " جيل باندر " الي الحبكة الروائية تتطلب الشك في علاقة بين خطيبته الأمريكية والخبير المتحذلق فيعود الي الفندق ويواجهها لتعترف ويعترف هو بأن عليهما أن ينفصلا ويخبرها الأب أنه كلف مخبرا سريا بمراقبة هذا الخطيب وأن المخبر اختفي ويعيدنا الان الي بدايات القرن العشرين لنجد المخبر يدخل خطأ الي البلاط الملكي الفرنسي ويطارده الحراس فيم لا يعرف الي أين يتجه . 
ونكتشف أن الفيلم ما هو الا رواية تتم كتابتها عبر معايشتها لكن الان لا يكتفي بذلك انه يصطحب البطل الي هناك حيث شاطيء النهر في منتصف الليل ويلتقي مصادفة بالبائعة التي لا تمانع في أن يمشي معها قليلا وأيضا لا تمانع في أن تبتل من المطر الباريسي لأنها تحبه بينما تتساقط الأمطار علي الإسفلت وعلي الأعمدة والمصابيح وسط اضاءة ليلية خارجية بديعة . 


تعرض بطلنا للخيانة واكتشفها الابداع ونجا منها لأنه لا ينتمي في حقيقة الأمر الي هذا العالم الزائف وقرر أن يستقر في باريس الملهمة لكن بطلة زهرة القاهرة القرمزية تخطيء في اختيارها للمرة الثانية حيث يدخل الممثل طرفا في العلاقة بينها وبين الشخصية التي يمثلها ويستطيع أن يعيش معها مشهدا مشابها لذلك الذي عاشته مع شخصيته الأكثر نبلا وصدقا وبالمنطق السليم وفي دار العرض تقف حائرة بين اختيارين أحدهما شخصية فيلمية نبيلة والثاني بطل هوليوودي في طريقه الي المجد وكلاهما له نفس الشبه وتختار الانسان المبدع ليعود الابداع نفسه الي داخل الشاشة يستكمل تقديم الفيلم مهزوما عاطفيا بينما يصحب الممثلة بطلة زهرة القاهرة القرمزية الي خارج دار العرض ويطلب منها تجهيز حقيبتها للسفر معه الي هوليوود فتذهب لدقائق وتعود لتكتشف أنه كان حزءا من خطة استعادة الشخصية الفيلمية حرصا علي أموال المنتج وعلي مستقبله الفني .. فتعود من حيث أتت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة