في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة




أسامة صفار 

"كلما زاد إحساس الشخص بعدم الأمان زادت قابليته للتحامل ".. المقولة السابقة للمخرج والملحن والممثل الأمريكي "كلينت ايستوود" والذي تجاوز الثمانين من عمره ووصل إلى القمة في عمله السينمائي بحصوله على جائزة الأوسكار أربع مرات قبل أن يتفرغ بذهنية صافية وحكيمة بحكم الخبرة والزمن لصناعة أفلام تحمل لمسات خاصة جدا وللمصادفة فان الاقتباس السابق انطبق تماما على حال فيلمه الجديد "hereafter" الذي منع دور العرض المصرية وهو الفيلم التاسع على التوالي في تسع سنوات للمخرج الذي صنع اسمه عبر أدوار راعي البقر ضمن أفلام الويسترين خلال الستينيات وبات لاحقاً من أعرق صانعي الأفلام في هوليوود.
وقد رفضت الرقابة على المصنفات الفنية عرضه فيما يبدو نتاجا لشعور الرقيب بعدم الأمان بسبب المد السلفي على المستوي السياسي فتحامل على الفيلم وهو التناقض الصارخ والمزعج في الوقت ذاته إذ قامت الثورة من أجل المزيد من الحريات .
ولعل سوء الفهم لدى الرقيب نبع من كون الفيلم يناقش ما بعد الموت وبالتحديد "الآخرة " بين من يعتقدون بوجود الجنة والنار والحساب وبين من لا يعتقدون بها وهي منطقة محرمة – إلى حد كبير – لدي الرقيب الذي يراها بديهة مسلما بها يتأسس علىها الإيمان ولأن الأمر بهذا الشكل صحيح تماما فقد وجب علىه أن يترك الفرصة للشك الايجابي الذي يقود أبطال الفيلم إلى مصيرهم الموحد باعتبارهم مؤمنين بالآخرة والجنة والحساب .
ويحكي الفيلم ثلاث قصص متوازية ومتداخلة حول ثلاثة أشخاص يلامس كل منهم الموت بطريقة مختلفة أولهم"مات ديمون" الذي يروي حكاية الأميركي "جورج "عامل المصنع ، والذي يكون قادرا على التواصل مع الموتى والثانية "سيسيل دو فرانس" وهي قصة الفرنسية ماري المراسلة التلفزيونية وتنجو من كارثة "تسو نامي" بعد حالة موت مؤقت أما الطفل جورج ماكلارين فيلعب دور ماركوس، وهو الصبي البريطاني الذي يريد التواصل مع أخيه الأكبر منه سنا والذي قتل في حادث سيارة.


 كلينت ستود
يبدأ الفيلم ومنذ اللقطة الأولي على شاطئ اندونيسيا الذي يشبه التصورات عن الجنة بجماله ومناخه المعتدل حيث يقضي المخرج وصديقته المراسلة التليفزيونية الفرنسية "ماري" إجازة وبينما يغرق هو في كسله تستيقظ ماري لتخرج في جولة على قدميها بينما لا تغيب السماء في أي لقطة عبر حركتها منذ بداية الفيلم وحتى خروجها وشرائها قلادة صغيرة وتغيب السماء فقط حين تغرق الصحفية الفرنسية تحت الماء مصابة في رأسها بينما تنفتح عيناها على آخرهما وتفلت من بين يديها القلادة وكان الصديق المخرج قد استيقظ ليجد هجوم موجات تسو نامي قد بدأ يطيح بكل ما يقابله فيهرب من فوره والفارق بين ماري وصديقها هو أن المخرج كان نائما بينما بدأ غضب الطبيعة وهرب وحيدا بينما كانت ماري في الشارع فالتقطت طفلة وجرت وإياها وحاولت إنقاذها قبل أن تصاب في رأسها وتدخل في حالة موت تحت الماء.
تقترب الكاميرا من العين إلىمني لماري لتؤكد ع موتها حيث تبدو العين جمادا لا حركة فيه ولا انعكاس ولا ظلال لما يحيط به ومن ثم تظهر أطياف نورانية تبدو بينها الطفلة والعديد من الآخرين الذين سجلتهم عيون ماري قبل موتها على شريط ذاكرتها ويبدو كأن الموت يعيد شريط الصورة ليقرأه الميت في ظرف مختلف تماما عن ذلك الذي عايشه
ننتقل إلى شابين يحاولان إسعاف ماري من خلال التنفس الصناعي لكنهما يفقدان الأمل ذلك أنها لا تتنفس ويبتعدان قليلا فتفاجئهما بالإفاقة وتهيم باحثة عن حبيبها لتجده يبحث عنها وسط الحطام الذي يستدعي تصورا ساذجا عن القيامة ويوم البعث وبعناقهما ينتقل الفيلم إلى بداية القصة الثانية يخضع جورج من باب الحرج لابتزاز أخيه الذي يرجوه قراءة قدر صديق له يهمه أمره لكنه – أي جورج – يؤكد أنها المرة الأخيرة فقد توقف عن الأمر لأن الحياة التي تدور حول الموت ليست حياة رغم أنه كان معالجا نفسيا شهيرا وله موقع شهير على الانترنت بل وصدّر كتاب عنه .. حالة جورج تنتمي إلى نفس الحزمة التي اختبرتها ماري الفرنسية حيث عولج وهو صغير بجراحة في المخ طال وقت إجرائها ومات لكنه عاد ومن بعدها تكشفت لديه القدرة على قراءة أقدار الناس وحمل رسائل الموتى إلى الأحياء لكنه ارتضي أن يكون عاملا بسيطا بدلا من اللعب بأحلام وكوابيس البشر والوقوف في منطقة وسطي بين الموتى والأحياء مقابل أموال وشهرة.

ديكنز وشكسبير
جورج يحب تشارلز ديكنز ويعتبر شهرة شكسبير إعلامية بينما الرائد هو ديكنز الذي يبدو أنه يشبهه. حيث كان الكاتب الانجليزي الشهير دقيقا في وصفه وواقعيا يميل للفقراء ويملك موهبة أدبية جبارة رغم عمله في أعمال شاقة خاصة خلال طفولته فضلا عن المشترك الأهم وهو عدم اهتمام الأديب وجورج معا بالمردود المإلى لذلك يتعرض جورج لأزمة مالية بعد أن يجبره التوحش الرأسمإلى على ترك عمله ليحاول الحصول على دورة تدريبية في الطبخ ويلتقي هناك بفتاة تقبل علىه لكنه حين يلامس يدها يقرأ مأساتها وتكتشف هي بالصدفة من رسالة مسجلة على الانسرماشين من أخيه قدراته وتصمم على أن يقرأ لها قدرها ويضطر لإبلاغها أسف والدها عن إساءاته الجنسية لها فتخرج الفتاة من بيته ولا يراها أبدا بعد ذلك
ويقنعه شقيقه بقبول العودة للعمل كمعالج نفسي وينشئ موقعا على الانترنت من اجله ويبدأ في تحديد المواعيد له ولكن جورج يأبي الخضوع ويفر إلى معرض الكتاب في لندن باحثا عن جولة ثقافية في منزل ديكنز الذي حوله الانجليز إلى متحف لمقتنياته
كانت ماري قد عادت إلى عملها مع صديقها ومنتج برامجها ومخرجها لكنها تغيرت تماما ..لم تستطع التركيز بينما تتسلل إلى خيالها الأطياف النورانية التي رأتها في موتها وتجبر على إجازة تقوم خلالهما بإعداد كتاب كان في البداية عن الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران لكنها تحوله بطبيعة اهتماماتها إلى كتاب عن موضوع ما بعد الموت ليواجهها الناشر قائلا : أنت في أوروبا وما كتبته لا يصلح هنا لكن قد ترغب دور نشر أمريكية في التعامل مع مثل هذه الأساطير .. وتسقط ماري في حالة فشل مطبق فهي فقدت عملها وفشلت في كتابها وفقدت صديقها الذي تبني مراسلة جديدة وأحبها أيضا لكنها تتلقي اتصالا من دار نشر أمريكية متحمسة للنشر فتنهي الكتاب وتسافر إلى معرض الكتاب في لندن لتروجيه .
أما ماركوس الصغير فقد احتارت معه كل الأطراف فمنذ فقد شقيقه في حادث سيارة وهو يرفض الاستجابة لأي أسرة ترغب قي تبنيه وكانت والدته قد أدخلت إلى مصحة لمعالجة المدمنين بينما كان الاثنان ماركوس وشقيقه الراحل يحميانها من مثل هذا المصير ويخفيان زجاجات الخمر كلما جاء أفراد الشئون الاجتماعية ويحاول ماركوس بشكل لا يستطيع استيعابه الآخرون البحث عن علماء روحانيات أو معالجين نفسيين ليبلغ شقيقه الراحل رسالة مؤداها أنه لا يستطيع العيش بدونه ويهرب من الأسرة التي تتبناه لتعثر عليه الأم وتقرر أن تجعله يلتقي بآخر الأطفال الذين تبنتهم ويرى كيف أصبح يملك عملا وشقة وتصطحبه بالفعل إلى معرض الكتاب في لندن.



توقع ماري كتابها وتلقي محاضرة أمام القراء بينما يقف جورج العائد لتوه من زيارة إلى منزل – متحف ديكنز وتشتبك العينان في وصلة من الحوار الأعمق من كونه إعجابا أو حب إنها وحدة المعتقد والمصير والتجربة المشتركة وهي الحقيقة التي أدركها كل منهما عبر اختبار الموت لتهب لهما عيشا مختلفا يبحث كل منهما فيه عن نصف آخر يحمل الملامح الروحية نفسها حيث الإيمان بأنه يوجد بعد الموت ما يستحق انتظاره لكن طفلا مزعجا يلفت الأنظار لجورج مرددا اسمه كمعالج نفسي فيضطر إلى اصطحابه خارجا ثم يتركه عائدا إلى الفندق الذي يقيم فيه ويقف الطفل تحت نافذته رافضا العودة إلى بيته إلا بعد أن يقرأ جورج له قدره ويحمل رسالته إلى أخيه ويشفق علىه فيدعوه للصعود ويحمل رسالة الشقيقين إلى بعضهما ليستقر ماركوس ويستريح تماما ويستوعب رسالة الأخ الراحل الذي يعيش سعيدا هناك ويعود إلى بيت أسرته ويتصل بجورج مبلغا إياه برقم غرفة ماري وينتهي الفيلم بينما تبحث العيون عن بعضها في مدخل الفندق.

صفحة الغيب
الوسيط الروحاني هو ذلك الشخص الذي يدعي قدرة ما على الاتصال بعوالم أخري ويستطيع من خلالها علاج أزمات أشخاص في عالمنا الشاهد وسواء كان الاتصال بالجن أو العفاريت أو الأرواح فان الأمر يصبح مغريا جدا للأشخاص الذين يسهل خداعهم حيث يشعرون بضالتهم في هذا العالم والضعف الفردي – إذا صحت التسمية – شائع في المجتمع الأمريكي الوحشي الذي لا يتوقف عند ضعيف لذا لجأ صديق شقيق جورج إليه بشكل سري للتواصل مع زوجة راحلة عاشت مريضة ولم يتذمر منها الزوج يوما ومثل ذلك الزوج ملايين يعيشون على قراءة الأبراج والكف ومحاولة النفاذ إلى حقيقة الكون ليس عن رغبة في المعرفة بقدر ما هو شعور بالضعف يجعلهم يلجؤون للطب النفسي كبداية وينتهون بالخرافات والانحرافات العقائدية ولعله ليس ببعيد عنا زمنيا ذلك الفعل الإجرامي الكامل الذي انتحر خلاله أتباع جيمس وورن جونز أو ما يُلقّب بــ جيمي جــونز والذي وُلدَ في 13 مايو 1931 وتــوفي في 18 نوفمـبـر 1978( هو مؤسس مـا يُسمّى بــ معبد الشعوب Peoples Temple والذي اشتهر بـعملية الانتحار الجماعي في 18 نوفمبر 1978 و راحَ ضحيتها ما يزيد عن 900 عضـو في المعبـد فـي Jones Town فـي Guyana ، بالإضافة إلى مـوت 9 أشخاص آخرين بالقـرب من مدرج هبوط للطائــرات في جورج تــآون وتماثلها في الشرق عمليات اللجوء للجن والعفاريت والدجل ويرتفع معدلها في الشرق لأسباب مختلفة ولعل سرعة وجود زبائن لجورج وتحديد مواعيد من خلال شبكة الانترنت يؤكد على قائمة انتظار لا حصر لها يشعر بها الأفراد في مجتمع لا يرحم ضعفاءه.
ولعل التقاط كلينت ايستوود لخيط التفكير في الآخرة هو استجابة لمنظومة مجتمعية تبحث عن يقين خارج عن ناموس القوة الإنسانية التي تقهر والذي يسود الولايات المتحدة منذ فجرت قنبلتي هيروشيما ونجازاكي وأنتجت عقيدة الإيمان بألوهية أمريكية تحكم أقدار العالم.
ولعل اللقاء في معرض الكتاب بلندن بين ثلاثة ينتمون لفكرة واحدة ومناطق مختلفة يرجح اختيارات سيناريست ومخرج قالا في البداية أن باريس ولندن لا تحتملان الأساطير التي تنتمي للدين ورشحوا أمريكا لها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams