تجليات كورونا(2)


ردود أفعال الشعب المصري تجاه الأزمات أو القضايا العامة لا تفاجئ أحدا، لأنها تقريبا تتشابه بشكل شبه تام، وكذلك ردود أفعال الأنظمة السياسية العالمية ولكن ردود أفعال الأنظمة تأتي غالبا طبقا لتوجهاتها الفكرية والأيديولجية.
ان محاولة عقد مقارنة بسيطة بين رد فعل المصريين تجاه ثورة يناير و رد فعلهم تجاه وباء كورونا العالمي سوف تنتج نموذجا يمكن أن يكون استرشاديا - على الأقل - للتعرف على قانون سلوكي للمصريين في هذه المرحلة دون أن نغفل أن السلوك الانساني يستحيل الخروج بقانون محدد له الا تحت ظرف معين و في مرحلة محددة وبين أفراد شرائح متشابهة .
بدأت سردية ثورة يناير لدى طليعتها باضراب 6 أبريل الشهير وسبقته حركة كفاية 2004 كواحدة من نداءت (فاض الكيل)، وفي الحالتين كان الناشطون والمهتمون بالمشاركة والتفاعل هم الطليعة الثورية وهي أقلية لا تتجاوز 15% من النخبة التي تنوعت بدورها بين مؤيد للحراك الثوري بلا شروط و مؤيد متحفظ و معارض بادعاء الحفاظ على الدولة المصرية و معارض في المطلق لصالح الاستقرار بالمعنى المصلحي ، وهنا يجب أن نعزل كل من سبق ذكرهم عن مفهوم الشعب الذي نقصد به هنا " المصري البسيط الذي لا تحتل الاهتمامات العامة في الاحوال العادية لديه مساحة تتجاوز الدردشة مع الأصدقاء أو العائلة. والسؤال ماذا كان رد هذا (الشعب) على كفاية و6 ابريل .. تقريبا لاشئ، رغم فداحة ما حدث في المحلة الكبرى حينهان لكن الضجة التي صاحبت الحدث اعلاميا استطاعت أن تبث ثقة و عزيمة جديدة لدى الأقلية ( الطليعة ) التي كانت تحلم بتغيير الوضع القائم ولو جزئيا.
(سمع) البعض عن اضراب 6 أبريل وشاهد البعض مظاهرات كفاية أمام دار القضاء العالي و فقط ، لكن " الحركة الأهم والأعظم في تاريخ مصر وأقصد بها هنا 6 أبريل ) بدأت تنشط وتتبلور لتصنع ما يمكن أن نطلق عليه مؤسسة تثوير الشباب و تعليمهم الثورة و ظلت تكتسب أرضا جديدة وساعدها النظام الأحمق و لكن الأمور كلها دارت في مساحات اعلامية متعالية على 6 أبريل باعتبارها طبقا لتعبير أحد أعضاء لجنة السياسات التي كان يرأسها جمال مبارك ( حركة عيال) ولكن الأشهر هو سؤال الصحفي المصري لجمال مبارك الذي كان يقف كالطاووس عن رأيه في شباب الفيس بوك، فما كان منه الا أن توجه ساخرا للصحفي حسين عبد الغني قائلا : رد انت يا حسين. وانتشرت المقولة بعدها إلى أن تحولت إلى مقولة و عبرة بعد الثورة حين انضمت إليها مقولة مبارك الأكثر حمقا عن معارضين ( خليهم يتسلوا) ...
بعد ظهيرة 25 يناير 2011 خرج بين 50 ألى 25 ألف شاب إلى الشوارع ، وعلت هتافاتهم في شوارع خلفية بالبداية و لأن الاحتقان ( بين فئة الشباب ) كان قد بلغ مداه فقد اكتسبت نسبة لا بأس بها ورغم ذلك لم يتجاوز عددهم 70 ألف في نهاية اليوم، وتكرر الأمر في اليوم الثاني و الثالث و كانت غالبية الشعب المصري التي ورثت فكرة الابتعاد عن الصراع السياسي من عناصر ثلاثة هي : اليأس وعدم الشعور بالجدوى بعد وعود على مدى نصف قرن أو يزيد - الرعب من السجون و المصير الأسود في ظل أنظمة أمنية - ميراث البعد عن الحاكم القادم من مرحلة المماليك حيث يتجاور الحاكم والمحكوم ولا يتداخلان الا في الضرائب والاتاوات.
كانت هزيمة الشرطة و هروبها محطة رئيسية ولافتة حيث سقط عنصر الخوف ، وبدأ الشعب (في عمومه) يهتم بالأمر و عبر كثيرون عن( ثوريتهم المكتومة ) و سارت الأغلبية في موكب المنتصر ..لكن أحدا لم يلتزم بفكرة الثورة إلا قلة قليلة ..تقريبا نسبة تؤول إلى 1% من الثوار.
بالعودة ألى كورونا ..فان التوازي الزمني بين الحدثين يشير إلى أن الأمر يسير بالعكس ،بمعنى أن المصري البسيط يمارس حياته بشكل يومي و لا يكلف نفسه اختبار طبي لأنه ببساطة لن يدفع 1200 جنيه ( لا يملكها) و الكثير من فقراء مصر لن يكلفوا أنفسهم أثمان منظفات اضافية وسوف يكتفون بالصابون ان وجد ، لكن متابعة الاعلام الحكومي تدفعهم إلى الخوف من كسر الحظر فيزدحمون لتخليص مصالحهم والخضوع للحظر ( قرار مملوكي بالنسبة لهم قد تعقبه غرامات على المخالف) ورغم ذلك فكما مارس حزب الكنبة المصري الشهير حياته أمام شاشة التليفزيون ظل يمارسها أيضا أمام الشاشة نفسها في أزمة كورونا ليس باعتباره طرفا في الموضوع بل لأنه يدرك في النهاية أن الأمر لا يخصه و لن تشكل قراراته فارقا في الحياة والموت والسياسات و ظهر الهوس الديني ليحرك البعض بين نداء و دعاء من بلكونه و بكاء على اغلاق المساجد أو بكاء على الاقتصاد ...أين الانسان المصري اذن ؟.. غير موجود على مستوى الفعل ..ينتظر فك الحظر والعودة إلى العمل أو يعمل بشكل طبيعي لأنه سوف يجوع إذا امتنع عن العمل . خرجت فلول نظام مبارك و تم اغراء بعض قيادات يناير التي ظهرت خلال الحراك اعلاميا واكتسبت مصداقية بالدخول في معارك استنزاف واستقطاب مهووسة وعنيفة إلى حد العبث و بدأت الوجوه العسكرية الكئيبة تظهر خلف أقنعة الحب و الود ..ومعها بدأ الاعلام يطالب حزب الكنبة بالتحرك للحفاظ على مصالحه من جهة و بدأت التيارات الدينية تطلق سهاما مسمومة أولها ( يا مشير انت الأمير) و آخرها ( الشرعية في البرلمان مش في الميدان ) .. وبدا المناخ ممهدا تماما لتنفيذ خطة تسليم جماعة الاخوان للشعب ( وهي خطة تم تجهيزها خلال ال18 يوم) .. ولم يكن حكم الاخوان إلا المرحلة قبل الأخيرة للقضاء على الثورة أوعلى الأقل خفض ذروتها الثورية وعنفوانها وقد حدث.
بالعودة مرة أخرى إلى كورونا .. الكائن التليفزيوني يتلقى معلومات متناقضة من اعلام النظام ويستقبل وصفات الشلولو ( من نفس فصيلة الكفتة ) وغيرها ويستقبل أيضا تمهيدا عاما قاده أحد رجال الأعمال يطالب خلاله بعودة العمال ألى أعمالهم حفاظا على الاقتصاد و يمتص الصدمة ويتلقى هجوما اعلاميا من صحافة لم تتلق التعليمات الجديدة بعد، ثم يخرج رئيس الجمهورية ليشير إلى ما احتواه التصريح باعتباره قيد التطبيق خلال المرحلة المقبلة ..ماذا يفعل الكائن التليفزيوني ( حزب الكنبة الكوروني ) ؟ .. سوف يلتزم أيضا بالعيش إلى جوار النظام .. الحقيقة أن المقارنة بين سلوك الشعب في الحدثين تؤكد على التالي :
1- لا علاقة للمصريين بالسياسات العامة إلا في حدود الثواب والعقاب المباشرين
2- لا يصدق المصريون بوجود كورونا لأنهم لم يروه رأي العين، لكنهم شعروا بالجوع أو الحاجة
3- نحن أمام نظام انعكس تخبطه على العقل المصري الجمعي فسلكت كل طبقة سلوكا خاصا بها يتسق ومصالحها فالوسطى العليا و الوسطي ( قدر ما تستطيع ) انقضت على متاجر المأكولات و الأسواق لتترك الأرفف فارغة .. أما الفقراء فقد مارسوا حياتهم العادية يأسا أو عجزا أو أملا في رحمة الله.
4- الاسلاميون ( بطوائفهم المختلفة ) بين شامت في الغرب الكافر و متسائل عن جواز الترحم عليهم و منادي بفتح المساجد و آخر يؤكد أن ما يحدث هو حرب على االاسلام .
وكما تجاهل الاخوان الشعب المصري واعتبروه مجرد رقم ضمني في معادلة حكمهم، فتجاهل معظمه المجزرة الوحشية التي تعرضوا لها في رابعة، فان الشعب الذي يدفع للخروج الآن لخدمة الاقتصاد دون ضمانات سلامة و دون احصائيات تبرهن على تلك الضمانات سوف يتجاهل الكارثة القادمة لو لا قدر الله انتشر الوباء وتعطل الانتاج نتيجة هذا الانتشار.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة