مسيح عبري إيراني ومؤمنون مرضى!



أسامة صفار

يحاصرهم الداعشيون من الجهات الأربع، وتقترب منهم عاصفة رملية.. لا مهرب لهم من التراب القاتل سوى الرصاص القاتل، فجأة يظهر رجل تبدو عليه سمات الوقار وملامح التقوى، وينطلق في الخطابة بطلاقة وروح قوية، ليحثهم على الصمود ويبشرهم بنصر قريب، تصدقه قلة منهم، بينما ينفر الآخرون هاربين، وبعد نهاية العاصفة يكتشفون هروب الداعشيين، ويفسرونها بذلك النصر الذي بشر به الرجل الغامض، فيسارعون إليه مرددين الهتافات ويعتبرونه " المسيح " انعكاسا لرواية بعث النبي عيسى بن مريم في آخر الزمان لينقذ المسلمين والعالم ويحارب الظلم.
ويقودهم الرجل الذي أطلقوا عليهم اسم "المسيح" إلى مكان لا يعلمونه ويطيعه تابعوه الذين يتجاوز عددهم ألفي نفس وينتمون في أغلبهم إلى الفلسطينيين الذين يعيشون في سوريا إلى حدود فلسطين المحتلة وتمنعهم قوات الاحتلال من الدخول إلى وجهتهم وتقبض على " المسيح "، ويختفي من السجن، ليظهر في الولايات المتحدة الأمريكية وتنطلق دعوته هناك وتتفاعل وتثير قلق الأجهزة بدءا من المخابرات وشرطة الهجرة، وحتى رئيس الولايات المتحدة نفسه.
ويطرح مسلسل " المسيح "، الذي بدأ عرضه على شبكة نيفليكس في  فبراير 2020، رؤية سياسية فنية تكاد تتطابق على نحو ما مع الرؤية الغربية للأديان الرئيسية الثلاثة وتتطابق مع التناول الغربي للثقافة العربية والتصور الغربي عن المسلمين في العالم، وينقسم العمل الذي يجمع ممثلين عربا وإسرائيليين وأمريكيين إلى عشر حلقات تدور أحداثها حول ظهور زعيم ديني يبشر بخلاص المظلومين في العالم انطلاقا من فلسطين – سوريا.
عالم صغير جدا
لم يوضح صانعو العمل كيف انتقل المسيح إلى الولايات المتحدة لينطلق ذهن المشاهد إلى تخيل حدوث معجزة تبرهن قدراته غير المحدودة، لكن الإعلان عن وجوده كان الأقوى إذ ينقذ فتاة كانت على وشك الهلاك من عاصفة أخرى في الولايات المتحدة ومن ثم يتبعه والدها القسيس والمرشد الروحي للقرية التي يعيش فيها مع أسرته وهكذا يؤسس مكانا ماديا لانطلاق دعوته، لكنه يقود أتباعه أيضا إلى اللامكان حتى يصل للعاصمة واشنطن.
كان الضابط الإسرائيلي الذي تولى التحقيق مع " المسيح " يحمل ملامح عربية و يشتهر بالعنف والتجاوز و لا ينكر قادته تجاوزه لكل معايير حقوق الإنسان مع الفلسطينيين لكنهم يبررون التواطؤ والصمت على جرائمه " بأنه يحقق نتائج جيدة" و حين يهرب " المسيح " يحمله قادته المسئولية و يتم التحقيق معه بحضور مندوبة " عميلة ميدانية " من المخابرات المركزية الأمريكية، تلك العميلة التي تعاني من ميلودراما في حياتها الشخصية إذ قتل زوجها في حادث إرهابي في تركيا و أفنى والدها عمره في العمل بالمخابرات الأمريكية حتى أصيب بمرض آل زهايمر و أصيبت نتيجة الإرهاق في العمل بأمراض شتى حرمتها في النهاية من القدرة على الإنجاب، و في النهاية تقيم علاقة مع ضابط الموساد المجرم الذي يطارده فشله في حياته الزوجية و عدم قدرته على منح طفلته الوقت الكافي بعد طلاقه نتيجة خيانة زوجته له.
هذه العلاقة المحورية بين " الموساد" وال "السي آي إيه" يركز عليها العمل بشكل مطلق بل ويركز بالتحديد على العملاء الميدانيين بشجاعتهم وتضحياتهم مقابل محدودية وغباء أفق قادتهم الكبار الذين يقبعون في مكاتبهم لإطلاق التعليمات أو رسم خطط القتل و الاغتيال خوفا من عواقب استمرار المناضلين أو الثوار أو المختلفين مع سياسات الدولة الأمريكية على قيد الحياة، لكن ترجمة العلاقة نفسها في تصور صناع العمل هي الأهم إذ يعبر عن ذلك التماهي بين الجهازين باعتبارهما يعملان لصالح كيان واحد في منطقة الشرق الأوسط و هو إسرائيل وإذا كان التنسيق يتم بين القيادات عبر وسائل التواصل وفي المكاتب فإنه يتم بين العملاء أحيانا في غرف النوم للتغلب على الأزمات الحياتية ولعل إجادة العميلة الأمريكية للغة العبرية و حمل الضابط الإسرائيلي لجواز سفر أمريكي يؤكد ويختصر القصة بكاملها حول كيانين منفصلين في المكان متحدين في الأهداف و الوسائل والرسالة .
مجنون يقود فاشلين
" تعلمت العبرية من أبي " هذه الجملة وردت على لسان المسيح أثناء التحقيق معه من قبل الضابط الإسرائيلي حين عبر الأخير عن دهشته من إجادة المسيح للعبرية، ويجد المشاهد نفسه مرة أخرى حائرا، فإذا كان ذلك المشاهد مسلما سيدرك بالبديهة أن هذا المسيح ليس إلا يهوديا ابن يهودي ولو كان المشاهد مسيحيا سيدرك أنه – أي المسيح – ابن الله وهو ما يعني أن الله يتكلم العبرية وسيدرك النوعان من المشاهدين أن العبرية هي المشترك العام بين المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والمسيح!
وقد ترك " المسيح " خلفه مؤمنون على الحدود و ترك مؤمنين في إسرائيل( كان حارس السجن قد شهد معجزاته فقام بتهريبه) و تبعه أمريكيون كثر وبين المجموعتين الرئيسيتين تدور الحكاية الأخرى للمسلسل حيث ينتج الإيمان بالمسيح بين الفلسطينيين – العرب نوعين، أولهما ذلك الذي ارتد على أعقابه بعد سفر المسيح إلى أمريكا ومعاناة تابعيه مع الجوع والعطش وشرطة المحتل الإسرائيلي رغم مساعدات بعض الإسرائيليين و عاد هؤلاء إلى أماكنهم الأولى ومدنهم أما النوع الثاني فهما شابان آمنا وانتظرا لكن كبار القوم تحايلوا حتى أعادوهم إلى الديار حيث تلقفتهم جهات تكفيرية .
و في الغرب اشتدت الدعوة و خاض الرجل غمار حياة مختلفة إذ اختطف بليل ووجد نفسه بين يدي رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وفي اللقاء يبدو الرئيس الأمريكي متأثرا إلى حد الإيمان به و اتباع تعليماته فيما يخص السلام في العالم و سحب جميع القوات الأمريكية من كل مكان تتواجد فيه بالعالم و لكن اللقاء والتعليمات تشعلان غضب الأجهزة الرسمية و بينما تعتبر المخابرات – باستثناء قائدها – المسيح كنزا معلوماتيا فإن رئيس الجهاز يتآمر و يسهل لضابط الموساد الإسرائيلي القبض على المسيح ( الذي منح حق اللجوء السياسي في الولايات المتحدة ) القبض عليه و من ثم يتم تفجير الطائرة التي تضم الضابط والسجين معا .
كان القسيس الأمريكي الذي آمن بالمسيح رجلا فاشلا تماما على مستوى الأسرة إذ غرقت في الديون وعلى مستوى الأبوة حيث تدمن ابنته المراهقة الحشيشة وتحمل وتقوم بعملية اجهاض أما زوجته فهي لا تتوقف عن السكر إلا لتطالبه باللجوء لوالدها من أجل سداد ديون الأسرة لكن الأب القسيس يرفض خشية شماتة والد الزوجة و بينما تستعد العاصفة للهبوب كان الرجل يحمل البنزين ليحرق كنيسته في القرية تمهيدا لحملة جمع تبرعات يسدد من خلالها ديونه لكن العاصفة وغياب ابنته منعاه ومن ثم ظهورها بعد أن أنقذها المسيح جاء ليشكل منعطفا آخر في حياته بعد ايمانه به و بدء حملة لجمع التبرعات من أجل بناء مقر للدعوة و رعاية الرحلة، ورغم التغيرات ينقلب الرجل على عقبيه مرة أخرى ويضعف إيمانه بمسيحه فيبدأ في استغلال المسيح للاتفاق مع فضائية يملكها والد زوجته لبث رسالة من المسيح إلى الأمريكيين من خلالها لكن الضابط الإسرائيلي يقبض على المسيح قبل صعوده بلحظات و ظهر مشهد القبض عليه و كأنه متفق عليه بين الضابط والمسيح .
وبالعودة إلى المؤمنين العرب فقد أطلق التكفيريون الشابين اللذين احتفظا بإيمانها أحدهما للتبشير بالمسيح والآخر لتفجير المسجد بكل من فيه، ليموت الشابين في الانفجار ومعهما تتناثر أشلاء العشرات في ساحة المسجد، وهنا تتلخص الرسالة الأهم لصناع العمل إذ أنتجت الدعوة التي جمعت في ملامحها بين الإسلام والمسيحية واليهودية عنفا في الشرق حصد الأرواح، بينما حاول الغربيون حل مشكلاتهم بالحوار وحين أراد أحدهم القتل دفع بالطائرة إلى سماء الجزائر ،ثم أسقطها لكن ظلت الولايات المتحدة قادرة في داخلها على تجنب الدم وتجنيب إسرائيل حرج سياسيا بالقتل المباشر للمسيح ورفض دخول ألفي شخص إلى أراضيها وتركهم للموت جوعا وعطشا ، وتكشف المخابرات المركزية الأمريكية حقيقة المسيح المزعوم عبر جواسيسها المنتشرين بين العرب والإيرانيين،و يظهر شقيقه على محطات التلفاز ليفضح مرضه النفسي بمتلازمة المسيح و تأثره بعمه الذي كان يعمل ساحرا، لكن الأهم أنه إيراني شيعي و هكذا يطل صناع العمل بتصورهم حول شخص شيعي جاء ليفجر إسرائيل من الداخل ثم أمريكا عبر القضية الفلسطينية، ورغم ظهور الأخ و عدم نفي " المسيح "  لما نشر عن اسمه أو جنسيته فإنه لم يتوقف عن اظهار معجزاته فبعد سقوط الطائرة يأبى إلا أن يحيي الضابط الإسرائيلي ( عدوه المفترض)  و حارسه و ينطلق في رحلة قد يظهر من خلالها في مسلسل آخر يحمل الرسالة نفسها وهي " كل الدعوات في أرض العرب ستؤدي إلى الدم " إذ أن القاعدة هي التنميط المسبق مع الإصرار على إعادة تدويره كلما وجد عربي في عمل فني.  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة