"ألمودوفار"حين " تحدث إليها ": الموت يعني انقطاع التواصل Almodovar




يطرح الاسباني بيدرو ألمودوفار في أفلامه من الأسئلة ما يفوق الاجابات بعشرات المرات ويخلق من الحيرة أضعاف ما يمنحه لمشاهد أفلامه من الاشباع البصري والفكري ،فالرجل الذي يشرح العالم من خلال المرأة ، يقدم في فيلمه " تحدث إليها " رجلين باعتبارهما بطلي العمل ليظل المشاهد مخدوعا بمظهرها طوال الفيلم ويكتشف في نهايته أن الرجلين ما هما الا روحين لامرأتين غابتا عن الوعي فماتت احداهما وأعيدت الأخرى إلى الحياة عبر منحة عاشق وهبها ما بقي له من العمر ومات.
والموت عند ألمودوفاريختلف عن غيره من البشر اذ ينتهي النقاش عن الموت وكيفية التعامل معه بالنسبة للميت عند موته، لكن الاخرين – أولئك الأحياء المساكين – ينقسمون بين صامت بحزنه وصارخ بألم الفرا...ألمودوفار نفسه قدم بطله "بينينو" الرجل الا قليلا.. متحدثا دائما مع حبيبته الميتة الا قليلا طوال العمل..

يقدم العمل الموت باعتباره فقط ذلك النسيان الرحيم أو الكريه عند البعض.. أما الحضور الذي لا يشترط جسدا فهو الموت الجميل وهي سنوات عمر البطل "الأكثر اكتمالا " اذ عاش متحدثا مع حبيبته الغائبة عن الوعي يرعاها تماما بكل تفاصيلها ويفعل من أجلها ما كان ينبغي أن تفعله لو كانت واعية بما فيها مشاهدة الأفلام القديمة وعروض الباليه ثم يعود ليحكي لها كل شيء.. وعلى العكس من صديقه الذي فشل في التحدث إلى حبيبته الغائبة عن الوعي أيضا.. ليـتأكد "بينينو" أن شيئا في علاقة صديقه ماركو بحبيبته مصارعة الثيران غير صحيح.

رجل في امرأتين

البطل الأول "نينو" هو شاب شاءت أقداره أن ينشأ مع أم عاجزة تماما عن الحركة وأب هرب من أسرته ومن التزاماته ليواجه الطفل قدره فيبدأ العناية بوالدته ويتعلم من أجلها العناية بالبشرة والماكياج ويدر
س التمريض ويقضي صباه وجزء كبير من شبابه في هذا الأمر إلى أن ترحل.. ليقع في غرام راقصة باليه تتدرب بالقرب من مكان اقامته ويقضي وقته في مشاهدتها تتدرب مع معلمتها في صالة الرقص إلى أن تأتيه الفرصة ليتحدث إليها لكنها تصاب في حادث وتدخل في حالة غيبوبة عميقة ويتم اختياره مع احدي الممرضات للعناية بها ويقضي أربعة أعوام وخلال تلك الفترة يتعرف على صديقه " ماركو " الصحفي الذي يرافق حبيبته "ليديا " مصارعة الثيران المصابة بغيبوبة ويشكو له ماركو من سوء حال حبيبته فيطلب منه بينينو أن يتحدث إليها ويندهش ماركو مؤكدا أن خلايا مخ ليديا قد ماتت لكن بينينو يؤكد له أن عقل المرأة لا يستطيع أحد أن يدركه وأن خبرته بالمرأة عبر عشرين عاما مع والدته وأربعة أعوام مع حبيبته تجعله يؤمن بذلك.                                                
"ماركو" يلتقي مع "ليديا " في لحظة أزمة تعيشها مصارعة الثيران التي تتجاهل هويتها في العلن بينما تعيش كل ضعفها الأنثوي ومخاوفها ورقتها في حياتها الشخصية ،تخلي عنها حبيبها فسقطت بين أحضان "ماركو" تدفن فيها حزنها لكنها تصارع بكل ضعفها فتهزم، ولا يستطيع ماركو أن يتحدث إليها فيشخص "بينينو" الأمر على أن ثمة خطأ في العلاقة وبالفعل تتضح الحقيقة حين يظهر الحبيب السابق وهو يتحدث إلى "ليديا “بينما هي غارقة في غيبوبتها ويخبر ماركو أنها تحدثت إليه قبل الحادث بساعات لتخبره برغبتها في العودة إليه .
وكانت "إلىسيا " الحبيبة الغائبة وراقصة البإلىه تحب أفلام السينما الصامتة لذلك يخرج "بينينو" من المستشفي إلى مكتبات الأفلام القديمة ليشاهد ثم يعود ليحكي لحبيبته ما شاهد لكنه هذه المرة يتوحد مع بطل فيلم صامت قديم قرر أن يهب نفسه لحبيبته فيقرر "بينينو" أن يفعل ذلك على طريقته وبطريقة ميلودرامية حيث يغتصب فتاته ليكتشف الأطباء انقطاع الدورة الشهرية عنها بعد شهرين فيسجن بينما تلد حبيبته طفلا ميتا وتستعيد وعيها أثناء الولادة ويعود ماركو من سفر طويل ليكتشف أن صديقه في السجن بتهمة اغتصاب "إلىسيا" ويلتقي الصديقان وبينهما حاجز زجاجي يعكس صورة كل منهما على الاخر في مشهد ملهم يشير إلى توحد بين الصديقين أو إلى كونهما متماثلين ويحاول ماركو مساعدة صديقه في الخروج من الأزمة من خلال اختيار محام جديد للدفاع عنه بينما تلد "إلىسيا " ويعود وعيها ويضطر لعدم اخباره ويقرر نينو الانتحار تاركا خطابا لصديقه يطلب منه فيه أن يزوره ويخبره بالجديد دائما عن حبيبته.
التواصل
يعيد ألمودوفار في الفيلم صياغة مفاهيم الحب والصداقة عبر خلق دوائر متداخلة من المعاني والعلاقات بمشاهد بديعة وملهمة في الوقت ذاته ولا يكتفي فقط بتأكيد فكرة التواصل مع الحبيبة الغارقة في غيبوبة باعتبارها سبيلها للعودة للحياة ولكنه يتجاوز بجرأة مدهشة إلى صنع مشهد له معني خاص اذ يأتي الصديقان " نينو وماركو " بحبيبتيهما " إلىسيا و ليديا " ويجلسانهما على مقعدين متجاورين وبينما تميل رأس كل منهما نحو الأخري وترتديان نظارات شمسية تخفي عيون يفترض أنها مغلقة فان "بينينو " يشير إلىها قائلا : تبدوان وكأنهما تتحدثان عنا ..
ليخلق المودوفار تواصلا بين غائبتين في خيال عاشق ذهب به العشق حد جنون لا يعترف بكونه منتهي الحكمة سوي مخرج العمل الذي استخدم رموزا شديدة الثراء والدقة في ان واحد ولعل الموقف الذي كان شرارة بدء العلاقة بين "ماركو " وحبيبته " ليديا " المصارعة الشرسة في منزلها يؤكد على عبقرية المخرج في استخدام الرمز الواحد للإشارة إلى أكثر من معني فضلا عن تحول في إدراك الشخصية بالنسبة للمشاهد اذ تصل ليديا إلى منزلها وتترجل من سيارة ماركو لتدخل بيتها ولكنها تطلق صرخة مرتعدة وتركض للاحتماء به من ثعبان في منزلها.. وهنا يفتح المودوفار خزينة أسرار امرأة نراها تصارع الثيران بمنتهي القوة بينما تحوي في وجدانها هشاشة ورعب الأنثى من ثعبان واضح للعيان واخر يسكنها اسمه الهجران وبينما يقضي ماركو على الثعبان الحقيقي فان ثعبان الهجران يقضي عليها حين تتحدي حبيبها الذي هجرها – وهو مصارع ثيران أيضا – بإعلانها المشاركة في مباراة ضد سنة ثيران ولكنها تهزم ويقضي عليها.
في نهاية الفيلم يذهب ماركو لمشاهدة عرض باليه وتدمع عيناه اذ يشاهد العرض ويفاجأ أن الجالس بالقرب منه هي "إلىسيا " حبيبة صديقة الراحل ويخرج الجميع في استراحة لتسأله "إلىسيا " التي لا تعرفه فعلىا عن حاله فيجيبها انه لا يعاني من شيء وتلمح معلمتها للرقص ماركو وإلىسيا وتخاف من اخباره لها بما حدث وتنفرد به لتحذره ولكنه يخبرها انه لم يقل شيئا ويضيف أنه يمكن لها فيما بعد أن تعرف بسهولة لكنها تجيبه: أنا معلمة رقص وأعرف أن لاشيء سهل أبدا.. وهي رؤية أقرب إلى المودوفار نفسه الذي استطاع أن يعيد صياغة المعاني وأن يصنع من تلك الدوائر الانسانية والمجتمعية داخل العمل زهورا جميلة وخادعة ومدهشة لكنها دائرية حيث تنتهي إلى ما بدأت به دائما.










تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة