چوكر ينتصر على باتمان في مقامرة سينمائية Joker





أسامة صفار

لا شك أن تود فيليبس كاتب ومخرج فيلم " چوكر" لاعب قمار محترف، وقد راهن على مكسب لا يصدق واختار رقما عجيبا، فربح الرهان وحقق إيرادات وهمية كما حقق حضورا إعلاميا وجدلا نقديا هائلا، وها هو بطله الآلي " يواكين فينكس يسلك طريقه إلى جائزة الأوسكار بمنتهى السهولة عن أداء يشبه أي شيء إلا أن يكون شخصية من لحم ودم.  وللدقة فان من يحاول قراءة فيلم " چوكر " عليه أن يتأكد  أنه شاهده أولا وعليه أن يحتفظ بتذكرة دار العرض لينظر إليها كلما راوده الشك في الأمر، لأن المخرج – في حقيقة الأمر – لم يكن متأكدا تماما من أي حدث يتعلق بالفيلم نفسه لدرجة الشك في صناعته من الأصل، وباستثناء المشاهد الثلاثة الأولي من الصعب أن ننسب المشاهد التالية في العمل إلى واقع البطل أو أوهامه فثمة تداخل أحيانا يصبح مربكا ويحتاج إلى تحليل منطقي لبنية العمل بالكامل ثم العودة لإجراء عملية فك وتركيب جديدة، لأن ثمة رأس محشو بالأوهام والأخيلة التعويضية يقود مسار الأحداث.
"آرثر فليك " شاب مقهور يعمل مهرجا أو بهلوان، يظهر قهره وضعفه في اختطاف لافتة من يده وضربه من قبل مجموعة صبية دون أي مقاومة من قبله، وهو شاب حنون يساعد والدته المقعدة ويحنو عليها كما لو كانت صغيرته ويتابع معها برنامج كوميديان شهير يقوم بدوره روبرت دي نيرو، وبدءا من مشهد متابعة آرثر ووالدته لعرض: موري " أو روبرت دي نيرو سوف يصبح من الصعب متابعة أحداث الفيلم باعتبارها تخص بطله الذي يجسده بمبالغة شديدة وأحادية أشد الممثل الأمريكي " يواكين فينكس "، فالبناء المنطقي للأحداث لا يبرر هذا التحول المفاجئ الذي يقتل بموجبه البطل ثلاثة من رواد " وول ستريت " حاولوا التنمر عليه وان لم يؤكد هو شخصيا ذلك ، ولا يبرر خروج جمهور المقهورين لنصرته قرب النهاية ، لكن كل ذلك يصبح مبررا تماما حين يجد المشاهد أن ثمة شبه كبير بين ما يتعرض له -هو شخصيا- من تجاهل وقهر و بين ما يتعرض له " آرثر فليك. "
راهن تود فيليب المخرج والكاتب الرئيسي للسيناريو بجرأة – أو قل بتهور – على توحد تام بين المشاهد والبطل بعد مشهدين تقريبا من بدء العمل وهي جرأة لا تشبه سوي " لعب القمار "، تلك اللعبة التي حكم منطقها العمل بكامله وانسحب على " الاسم " فهو " چوكر " – أي چوكر – يستطيع أن يلعب مكان أي " كارت " طبقا للحاجة إليه.
لم تكن قصة آرثر فليك إذن ولكنها قصة كل مشاهد يشعر بالقهر والتجاهل في العمل أو المنزل أو في أطر اجتماعية أخرى ولكل "مقهور" نسبة قهر، فهناك من يحلم بقتل كل الآخرين انتقاما لإنسانيته المهدرة بدءا من " والدته" التي يشك في بنوته لها بسبب ضغوطها التي تسببت في تشوهات نفسية لحقت به وليس انتهاءا بزملائه في العمل وخاصة أولئك الذين يعتقد أنهم يتآمرون عليه للتسبب في طرده، وهناك من تجاوز ذلك القهر أو لم يصادفه وهذا النوع قد يكتفي بمراقبة الفيلم من الخارج معجبا بمبالغات يواكين فينكس التي لا تشبه واقع الشخصية من حيث الأداء و لا يمكن احتمالها اجتماعيا.
ثمة مشاهد ثالث قد ينظر إلى الفيلم باعتباره بحثا في كيفية نشوء وتشكل شخصية " الچوكر " الشريرة في سلسلة أفلام " باتمان " وفي الحالات الثلاثة وغيرها سوف يكون المشاهد محقا وأيضا صناع الفيلم الذين أرادوا للچوكر أن يكتسب قيمته من علاقة المشاهد به وليس مما يريد التعبير عنه بشكل واضح.
اشتباك
قرر المخرج والسيناريست تود فيليبس أن يشتبك مع مثالية " باتمان" ليضع الجمهور بين اختيارين أحلاهما مر، فالمعروف عنه أنه شخص أخلاقي نشأ تحت الرعاية و الحماية الخاصة و الاكتفاء بالبصيرة عوضا عن البصر فلم يعتد – كما اعتاد غيره – على فساد مدينة جوثام و بالتالي مكنته بصيرته من التمييز بين الخير والشر ووهب حياته للدفاع عن الخير كاختيار طبيعي لمن نشأ في ظل ظروف  العزلة و الحماية، وجاء فيليبس ليؤكد على لسان بطله الضحية والشرير في الوقت ذاته " أنهما –  باتمان و الچوكر " أخوان ، شاءت نشأة أكبرهما أن يصبح شريرا و الآخر أن يصبح العكس فيما يشبه ثنائية قابيل وهابيل.
اشتبك تود فيليبس مع عزلة واغتراب بطل فيلم " سائق التاكسي " للنجم روبرت دي نيرو والذي قدم عام 1976عبر ذلك الاغتراب في حياة آرثر وعدم قبوله أو تجاهله من قبل الآخرين و هو ما حدا ب " ترافيس " أو دي نيرو لأن يمر بالتحول نفسه الذي مر به " آرثر" وهو ما يشير إلى أن الفيلم الأول " سائق التاكسي ليس عن سائق تاكسي تماما وأن الفيلم الثاني " چوكر " ليس عن بهلوان تماما وبالتالي فإن فكرة المقارنة بين كل من " يوكين فينكس " في دور المهرج و الفنان الراحل " هيث ليدجر " في الدور نفسه غير واردة لأن ليدجر أدى بالفعل دور " چوكر " لكن فينكس قدم دورا مختلفا وهو مرحلة تحول شخص مقهور و ضعيف ومنهزم نفسيا إلى سفاح لكنه يرتدي قناع الچوكر ويضحك حائرا بين البهجة والبكاء.
ولعل اختيار مدينة جوثام أو نيويورك الثمانينات لم يكن مرتبطا فقط بمدينة باتمان ولكنه ارتبط بالفكرة الأكثر اتساعا حيث جوثام هي ذلك العالم المليء بالفساد والشر وان ضاقت مساحة القراءة لتبرر حرمانه من تلقي علاجا لانحرافه النفسي حيث قرر رونالد ريجان رئيس الولايات المتحدة في تلك الفترة وقف صرف علاج المرضى النفسيين على حساب الدولة الأمريكية وهو ما ألقي بأكثرهم إلى الشوارع فيما بعد بين متشردين ومجرمين.
هل خرج هؤلاء المحرومين من تلقي العلاج لنصرة " الچوكر" في مشهد محوري غير واضح المعالم أقرب إلى الوهم أو الحلم؟ أغلب الظن أن هؤلاء المحرومين من تلقي العلاج هم أيضا " اللامرئيين" مجتمعيا وسياسيا وهم أولئك الضعفاء الذين يتعرضون للتنمر ويؤدي بهم " الانتخاب الطبيعي " في الولايات المتحدة إلى الفناء، فحتي خروجهم لتنصيبه زعيما ونصرته لم يمنع التحقيق معه.
قتل الأم.. والأب
قتل "آرثر" المرأة التي كانت أمه في بداية الفيلم وتأكد من الطبيب فيما بعد أنها لم تكن كذلك، بل أنها السبب المباشر لانحرافاته النفسية وهوانه اللامحدود، فقد شكلت بخيالها المريض وتشوهاتها النفسية لوحة " غير إنسانية " لإنسان مضطر دائما للابتسام والضحك، وقتل المخرج هذا الدور بعدم الاهتمام به – ككاتب سيناريو أيضا – فلا يوجد مشهد واحد يمكن أن يجعل المشاهد يتخذ موقفا ضدها حتي لو قيل ضدها كل ما ورد كمبرر للقتل ولأن الأحداث – طبقا لاختيارات صناع العمل – لا تخضع لتبرير منطقي طبيعي فان الأسوياء فقط سوف يسألون : إذا لم تكن أمه  فلماذا أكد ل "باتمان" الطفل : أنهما أخوان ؟ وإذا كانت أمه فلماذا قتلها؟ والاجابة التي تصلح للأسوياء أنه لا شيء كما يبدوا تماما فلعل جوثام هي العالم نفسه ولعل باتمان والچوكر معا أبناء أب واحد ولعل اسماهما الحقيقيان هما " قابيل " و" هابيل " أو "الخير " و"الشر".
اذا لم يكن آرثر شقيقا لباتمان فهو بالتأكيد الابن الذي لم ينجبه " موري " أو روبرت دي نيرو الذي شكل حضوره نقطة مضيئة في فيلم شديد الكآبة و ان انتهي الأمر بقتله و المعروف أن قتل الأب في الثقافة الأمريكية تقليد يتعلق بالتخلص من ميراث القيم الأبوية و نحت دور و قيم جديدة للحياة من قبل الأجيال الجديدة و اذا كان الشعار قد انطلق في ستينات القرن الماضي فان ثمة بشارة تشير إلى أن قتل الأب من جديد حتمية لتجديد الدم الأمريكي الآسن وهنا لن يستطيع الشاب المنحرف المخنث بنسبة ما إلا أن يتخلص من " ملهمه ووالده الروحي " موري ليستطيع أن يرى صورته نقية كاملة كما يريد لها ورغم وجود منطق يغفر ل " موري " ما فعله من محاولة السخرية من " الچوكر" باعتبارها منحته فرصته للظهور على الشاشة بعد ذلك إلا أن تلك النهاية الحتمية بالانتقام والقتل تشير أيضا إلى أن ذلك الچوكر كان يصدق أي شيء عن نفسه باستثناء شيء واحد فقط وهو قدرته علي الإضحاك.
نجح رهان تود فيليبس الذي قدم أول أفلامه عام 2000 بعنوان "رحلة الطريق “، واختصر يواكين فينكس مشواره الذي بدأ في طفولته عام 1982 في دور مبالغ فيه إلى حد كبير سوف يحصل عنه على جائزة الأوسكار!






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة