مقام سيدي لوركا..؟!Federico Garcia Lorca






اليوم، طفلة من ماء
ماتت في الغدير
هي الآن خارج الغدير
مكفنة على الأرض


في بيت الطلبة بمدينة مدريد الأسبانية، كتب فيدريكو جارثيا لوركا هذا المقطع ضمن قصيدة بعنوان "ليليات النافذة" عام 1923م. ولوركا الطالب هو الآن شاعر أسبانيا العظيم، والشهيد الشهير، و"القطب" الرومانتيكي.. والسياسي(!) أيضا في عالم الشعر، وقد اختير أخيرًا كأحد أهم الأدباء في القرن العشرين الذي يلتقط أنفاسه الأخيرة مودعًا.
ولم يكن اختيار إحدى دور النشر الفرنسية للشاعر عشوائيًا، ولكنه أيضًا يدخل في "منظومة" التدليل التي عاشها لوركا منذ ميلاده وحتى وفاته التي لم تعرف حقيقتها حتى الآن، فهو الشاعر الأسباني الذي لم يتح لغيره ما ناله من شهرة وحظوة لدى النقاد أو القراء في داخل أسبانيا أو خارج حدودها.


وقد كان أثناء حياته "الطفل المدلل" -كما أطلق عليه محمود على مكي في تقديمه لأعماله الكاملة بالعربية- في عالم الأدب الأسباني، وأصبح بعد مقتله هو الشهيد المدلل، والغريب أن الشاعر الرقيق لم يوجد في مرحلة نضب فيها عالم العبقرية الأدبية إلا منه، على العكس من ذلك تمامًا، فقد كان عصرًا ذهبيًا بالنسبة للشعراء. فقد عاصر بدروساليناس، وخروخى جيين، ورافايل ألبرتي وبيثنتي أليساندرو وغيرهم، وقد نال أليساندرو جائزة نوبل، وقد لمعوا جميعًا كشعراء أو أكاديميين، وامتدت بهم جمعيًا الحياة بعد مصرع لوركا الذي مات قبل الأربعين، لكن الجميع يعترفون بما فيهم هؤلاء أنفسهم أن لوركا سبقهم جميعاً!!


لوركا.. ذلك الشاعر الذي كان مصرعه مأساويًا لحد العبقرية، وعظيمًا لحد تخليده.. هل جعله كشيوخ القرى الذين بنيت لهم مقامات فلا يعرف من هم، أو ماذا كانوا يفعلون في الحياة ؟ ..
ومع ذلك تُبنَى لهم "مقامات"، وتتم زيارتهم من قبل بسطاء الفلاحين، وذلك من أجل التبرك، وإنجاب الأطفال(!)..!
أم أن هذا الشاعر قد استحق بالفعل بعبقريته الأدبية أن يصل إلى هذا الحد من الشهرة وذيوع الصيت؟


ولد فيدريكو جارثيا لوركا في قرية من قرى غرناطة الأسبانية هي "فونتي فاكيروس" في يونيه 1898م، وهو ينتمي إلى أسرة من أسر الطبقة الوسطى أقرب إلى الغنى، كان الطفل "المدلل" بين أربعة أطفال هم فرانسسكو أخوه الأصغر والفتاتان كونتشا وإيزابيل، وقضى أولى مراحل دراسته في القرية، ثم انتقل مع أسرته إلى غرناطة حيث أنهى دراسته الثانوية، وبدأ في دراسة الحقوق والآداب، وتعلم العزف على البيانو والقيثارة، وبدأ في التردد على المنتديات الأدبية، وانتقل عام 1919م إلى مدريد، وأقام في بيت الطلبة وعقد علاقات حميمة مع العديد من الفنانين، منهم: التشكيلي الشهير سلفادور دالي، والمخرج السينمائي لويس يونونيل، وفي عام 1928م أصدر مع عدد من أصدقائه مجلة أدبية لم يصدر منها إلا عددان، ثم سافر في رحلة إلى أمريكا، وبعد عودته عام 1930م، بدأ مشروعًا كان يمثل حلم حياته، وهو: تعريف الجمهور في الريف والقرى النائية الفقيرة بروائع المسرح الكلاسيكي الأسباني، وأنشأ ما عرف باسم "مسرح الكوخ"، وهو فرقة ألفها لوركا من شباب الجامعة كانوا يتنقلون بين قرى أسبانيا على ظهر شاحنة، فإذا حلُّوا بإحدى القرى نصبوا مسرحهم المتواضع لكي يقدموا عروضهم المسرحية مجانًا.


وأنشأ لوركا عام 1933م في العديد من مدن أسبانيا مجموعة من نوادي الثقافة المسرحية، ثم سافر إلى الأرجنتين وأورجواي لإلقاء عدد من المحاضرات، وعاد في العام التالي ليواصل جولاته مع مسرح الكوخ.
لقي لوركا مصرعه في 20 أغسطس عام 1936م في ملابسات غامضة، واتُخِذ مقتله أيامها سلاحًا سياسيًا وشعارًا رفعه خصوم نظام الجنرال فرانكو في الشرق والغرب على السواء، وألقيت التهمة على النظام؛ ولم يكن له أي مصلحة في قتله، ثم اتهم حزب "الكتائب" الفلانخ أيضا بتدبير الجريمة؛ رغم أنه كان يقوم بحمايته لعلاقة شخصية تربطه بأسرة معروفة تنتمي إلى الحزب.

ونتيجة لهذا الخلط نُسِبت إلى لوركا نزعات شيوعية ويسارية هو بريء منها، فليس في إنتاجه ما يدل على ذلك، بل كان ينفر من السياسة ويكره الزج باسمه في الصراعات السياسية، وقد وصل إلى هذه الحقيقة بالفعل الباحث والمؤرخ الأسباني "خوسين بلاسان" في كتابه "موت لوركا.. كل الحقيقة" بعد بحث وتحقيق استمرا نحو عامين، لكن انتشار هذا التزوير التاريخي جاء في مرحلة المد الاشتراكي في الستينيات، وخاصة في دول العالم الثالث.
ورغم أن لوركا لم يكن "مناضلاً سياسيًا" فلا شك أنه "ثوريّ" بكل ما تعني الكلمة، لكن ثورته كانت "أدبية" "مسرحية" و"فنية" أيضًا، وكان الرجل عبقريًا ورومانتيكيا في أدبه، بالقدر نفسه الذي كان فيه عبقريًا في إبداع الطرق المختلفة للوصول بهذا الأدب والمسرح والفن بشكل عام إلى الفقراء، فاستحق لوركا من جمهوره لقب "الشهيد"… واستحق التدليل … واستحق أيضا أن يبنى له مقام.. ويزوره المحبون والأدباء والسياسيون أيضا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة