رفـقًـا بالمتـحرشيـن جنسيا!





هل شاهدت من قبل جثة تنتهك جثة؟! أو هل تخيلت قدما مبتورة تحاول إيذاء جسد كامل؟! بالطبع لا.. الأمر يحتاج إلى تفسير، وإليك التفسير:

أنت تعتقد أن ما شاهدته أو سمعت أو قرأت عنه في منطقة وسط البلد بالقاهرة من تحرش جماعي وتواطؤ غير مسبوق على انتهاج سلوك حيواني مطلق وانتهاك لأعراض الفتيات اللاتي يسرن في الشارع وحدهن أو بصحبة عائلاتهن هو مشهد مرعب بكل المقاييس، ولكن هل تعتقد أنه مفاجئ؟.

هناك حدثان يستدعيهما المشهد الكئيب، على الأقل في محاولة لتفسيره والتأكيد على أنه ليس مفاجئا تماما؛ أولهما: هو الدرس الذي تعلمه الشباب من انتهاك لعرض الصحفيات يوم الأربعاء الأسود أمام نقابة الصحفيين المصريين (الاستفتاء على المادة 76) والذي قامت فيه الشرطة بفعل ما هو أسوأ بكثير (ملحوظة: الجملة الاستنكارية الأكثر أهمية في التعليق على تحرش وسط البلد هي: "التحرش الجنسي في وسط البلد وفي وجود الأمن").

الشرطة يفترض فيها أن تحمي، وهل يفترض أن نصدق ذلك بعد يوم الأربعاء الأسود؟! إذن يبدو الجناة المتحرشون وقد أعمتهم الغريزة وقللت مخاوفهم من رد فعل الشرطة صاحبة السابقة الأكثر شهرة.

والمشهد الثاني لتفسير هذا الحدث المرعب هو ما تناقلته منظمات حقوق الإنسان مؤخرا عن مجاملة أحد ضباط الشرطة لزميل له اختلف مع مدرب للسباحة فاستصدر أمر تفتيش لبيته للاشتباه بوجود مخدرات، وانتهى التفتيش بتحطيم أثاث المنزل وإلقاء المدرب من نافذة المنزل في الدور الرابع ليلقى حتفه فورا أمام زوجته وأولاده.

كل هذا حدث في حراسة الشرطة، ولكن هل يعني هذا أن الشرطة هي صاحبة الذنب الأكبر للمشاهد الثلاثة السابقة وهي المجرم الحقيقي؟.. أغلب الظن أن الشرطة تشبه الفتيات اللاتي تم التحرش بهن في موقفها كضحية؛ فهي في المشهد الأول -مشهد التحرش الجماعي بالفتيات في وسط البلد- عبارة عن مجموعة من العساكر الغلابة لا يملكون القوة اللازمة للردع، وهي في المشهد الثاني -يوم الاستفتاء "الأربعاء الأسود"- هي "عبد المأمور"، وفي المشهد الثالث -حادثة مدرب السباحة- هي ضحية إدراك تام لعبثية المشهد، مدركة تماما أنها في هذا الموقف بالتحديد تملك ناصية الفعل وتملك القوة اللازمة وتعرف أيضا أن يد العدالة والثأر والعقاب لن تصلها في أغلب الأحيان كما حدث في السابقة الأولى والخاصة بالصحفيات.

حريق الرجولة

ما قام به الشباب سلوك هستيري علاقته بالجنس والرغبة الجنسية ضعيفة جدا، فالرغبة الجنسية هنا كانت مجرد شرارة لإشعال حريق الكبت والحقد الذي تراكم عبر سنوات من البطالة والعشوائية وانعدام الأمل في المستقبل (زوجة وشقة أو حتى قوت اليوم).

مشهد التحرش الجنسي الجماعي ليس ضوءا أحمر يحذر من انهيار اجتماعي وأمني ولكن حالة تجلّ لهذا الانهيار، إنه الانهيار نفسه.

هذا المشهد ليس مفاجئا وإلا فكيف تصورنا ردود أفعال الناس حين انتحر خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الذي نجح في اختبار وزارة الخارجية ثم تم استبعاده لكون أبيه فلاحا، فانتحر من فوق كوبري قصر النيل.

مشهد التحرش الجنسي الجماعي ليس مفاجئا وإلا كيف يشهد الناس على سيارة يتجاوز ثمنها مليون جنيه مصري تسير في الشارع ويجاورها بضعة مئات من الشباب لا يملكون ما يصلون به إلى بيوتهم حتى في المواصلات العامة؟.

ضعف مناعة

حين تضعف مناعة الجسد يستقبل الفيروسات والأمراض معانقا إياها ومفسحا كل أجزائه لها. لكن كل هذه الأجزاء تقاوم ويسكن المرض أضعفها، وللأسف مازالت الفتاة هي أضعف حلقات المجتمع فالشباب لا يستطيع أن يتظاهر من أجل فرصة عمل أو من أجل شيء آخر وإلا لقي مصيره في زنزانة، وتهمة، وانتهاك جنسي غالبا، أو حتى لا يستطيع أن يثور على صاحب عمله إذا لم يعطه حقوقه، ولن يصرخ مؤكدا أنه يبدأ الكد والتعب مع شروق الشمس ولا ينتهي منه إلا مع انتصاف الليل، ولا يجد ما يملأ الأفواه التي يرعاها، بينما سيارات الفنانين في العرض الخاص لافتتاح الفيلم -الذي ازدحم الشباب أمامه في وسط القاهرة والذي واكب التحرش- تستطيع بالإطارات الأربعة لسياراتهم أن تعيش حياتك مستريحا.

أزمة الفتيات اللاتي تم التحرش بهن أنهن سرن في اللحظة الخطأ وفي المكان الخطأ وفي الزمن الخطأ، وعلى الشرطة والمجتمع أن يدفعا ثمن أخطاء نظام يركض بمصر كلها للخلف منذ عشرات السنين.

ولكن رفقا بالمتحرشين الذين اغتصبت آمالهم وأحلامهم وآدميتهم فلم يسمعوا سوى صوت الجسد، فتحولوا لجثث تنتهك جثثا وتتمسك بآخر أمل قد يفيد باحتمال وجود حياة فيها. وأغلب الظن أنه لو انتهت الضجة المثارة حول التحرش الجماعي إلى نتيجة على مستوى النظام فسوف تكون عبارة عن قرارات بإنشاء حواجز على الأرصفة في وسط البلد لمنع التجمعات الكبيرة، وأيضا الأداء المتشدد للشرطة مع المراهقين الذين يعاكسون الفتيات باللفظ، والإيعاز للصحف التابعة للنظام بالحديث عن الاحتشام للفتاة أثناء خروجها للشارع، وبالمرة الهجوم على الراقصة التي أشعلت النار في جثث الشباب.

ولن يقترب أحد من أزمة الحكام السبعينيين لكل شبر في مصر والضغط بالأقدام والقوانين والقرارات وكل شيء على الشباب الطائش وحرمانه من كل شيء بدءا من فرص العمل وحتى فرص الكلام انتهاء بفرص الزواج والسكن، وفى هذه الحالة لا داعي للدهشة أو الاستنكار فسوف يتكرر الأمر للأسف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة