السينما.. ذاكرة المنسيين في الأرض



القمح مش زى الدهب
القمح زي الفلاحين
صلاح جاهين

لا تقل أهمية كاميرا الديجتال في التعبير عن المهمشين عن تلك التي حظي بها ميثاق الماجنا كارتا Magana carta باعتباره الأصل الذي قامت عليه الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ودساتير الدول الديمقراطية في العالم.
وتتجلى تأثيرات كاميرا الديجتال الخفيفة الرخيصة والتي كانت هامشية تماما في بداياتها للسينمائيين وخاصة الخارجين منهم على طاعة صناعة السينما بميزانياتها الضخمة وانطوائها -غالبا- تحت لواء السلطة الاقتصادية أو السياسية أو بشكل أوضح سلطة المركز.
وقد جاء اختراع " كاميرا الديجتال" ليكون بمثابة الحل السحري الذي قدمه القدر ممثلا في العلم والتكنولوجيا ليحل معضلة العلاقة بين المهمشين والسينما حيث استطاع ممثلو المهمشين من السينمائيين أن يحملوا كاميراتهم وينتشروا بين عشش الصفيح ومناجم الفحم وسكان المناطق العشوائية، بل ويخترقوا السجون ومستشفيات الأمراض العقلية والقبائل البدائية التي همشتها الحضارة الغربية ليصوروا أفلامهم بعيدا عن طغيان التكلفة الباهظة لكاميرا السينما وما يتبعها من ضوابط رقابية تعمل دائما لمصلحة رأس المال والأيدلوجيات .
وهذا لا ينفي ظهور المهمشين على الشريط الذي أنتجته صناعة السينما التي تنتمي للسلطة بأشكالها الاقتصادية أو السياسية. و سواء كان هذا الشريط وثائقيا أو روائيا فقد أظهرهم باعتبارهم عناصر لا غنى عنها لاستكمال الصراع الدرامي أحيانا.

وقد وقف السينمائيون حائرين أمام صناعة الفيلم التي تتكلف بالملايين؛ بينما من غير المنطقي صرف الملايين على فيلم يتحدث عن مهمشين لا يحظون بأي قيمة في نظر منتجي هذه الأفلام، لذا كان ظهورهم على صور وأنماط محددة إما باعتبارهم نماذج موجودة في الواقع وبالتالي تفرض نفسها في السينما أو الاستعانة بهم كالبهارات في العمل الفني. والحديث هنا لا يقتصر على المهمش اقتصاديا(الفقير) أو اجتماعيا(المنبوذ) أو عرقيا لكن يتجاوز إلى المرأة باعتبارها أول مخلوقات الله التي احتلت الهامش بإرادة أبنائها!!
مصطلح محافظ
و"سينما المهمشين" مصطلح محافظ أطلقه نقاد ينظرون بتعال ودونية في اتجاه الواقع الاجتماعي الذي يفترض بالسينمائي الأخذ منه والرد إليه؛ فالمقولة التأسيسية للنقد السينمائي هي أن السينما مرآة المجتمع والفن هو الواقع تقريبا، وبالتالي فإن المهمشين جزء لا ينفصل عن الصورة المتشكلة عبر المرآة حتى وان همشت أدوارهم وحوصروا في مجموعات أو فئات أو طوائف أو غيرها.وقد عالجت السينما الواقعية المهمش ووضعه في المجتمع كما أظهرت السينما المصرية نماذج له وخاصة في فيلم “العزيمة” للمخرج الراحل كمال سليم عام 1939.
وامتد الاتجاه الواقعي في السينما المصرية ممثلا في أفلام صلاح أبو سيف ومن بعده عاطف الطيب ورضوان الكاشف وداود عبد السيد ومجدي أحمد على وخيري بشارة ومحمد خان.
وكان الفيلم الوثائقي المصري رغم ارتباطه برأس المال في بداياته (جريدة شركة شل المصورة) وبالسلطة السياسية بعد ذلك (جريدة مصر السينمائية وأفلام السد العالي والتنمية في مصر) والتي جاءت نتاج اهتمام حكومات ثورة 23 يوليو بتوثيق منجزاتها والدعاية لها؛ وهو ما أكده الرائد التسجيلي المخرج سعد نديم في كتابه تاريخ السينما التسجيلية في مصر قائلا: "هذا ومن المعلوم أن السينما قد نشأت تسجيلية وكانت مدة عرض الفيلم تتراوح بين دقيقتين حتى وصلت إلى ساعة وما يزيد على الساعتين أيضاً وبدأت السينما التسجيلية تنتشر في أوروبا وفى كل أرجاء العالم الكوني .

وقد نشأت السينما المصرية تسجيلية أيضا , على غرار السينما العالمية إبان ظهورها، وعلي يد رائد السينما المصرية (محمد بيومي ) ( 1894 -1963م ) حيث أصدر مجلة ( آمون ) السينمائية عام 1923 ، وظهر العدد الأول منها بترحيب الأمة المصرية بعودة الزعيم " سعد زغلول " من منفاه عام 1923 ، ثم تتابعت الأعداد بعد ذلك .
وبعد ثلاثين عاما من هذا التاريخ قامت " شركة شل المصرية " بإنشاء وحدة الإنتاج السينمائي، وأصدرت مجلة سينمائية أخرى بعنوان "صور من الحياة" تناولت فيها المشروعات الهامة في مصر خلال عامي ( 1954 -1955 ) .
ثم جاءت مصلحة الفنون وقدمت "مجلة الفنون" عام 1957م ، ثم أنشأت الحكومة المصرية "ستوديو مصر" وقامت إدارة الأفلام التسجيلية بإنتاج "المجلة السينمائية " عام ( 1965- 1966) ، وأنتج المركز القومي للأفلام التسجيلية بوزارة الثقافة بعد إنشائه مجلتين سينمائيتين الأولى بعنوان (الثقافة والحياة)، والثانية بعنوان (النيل).
وتتابعت الأفلام التسجيلية بعد ذلك من خلال (الوكالة العربية للسينما) والتابعة لوزارة الثقافة فأصدرت مجلة سينمائية عام 1972 وكان عنوانها "مصر اليوم" هذا وقد سبق كل ذلك إنشاء (جريدة مصر السينمائية) عام 1935 وقد أسسها المصور السينمائي( حسن مراد) وكانت تابعة لأستوديو مصر حتى وفاته عام 1970 ثم آلت تبعيتها للهيئة العامة للاستعلامات التابعة لوزارة الإعلام فغيرت اسمها إلى (جريدة مصر السينمائية الناطقة) وأصدرت أكثر من ألفين وخمسمائة عدد حتى الآن، وتعتبر سجلا تاريخيا عظيما للحياة المصرية والعربية.
و ظهر أول فيلم تسجيلي في تاريخ السينما المصرية عام 1924 ليواكب افتتاح مقبرة (توت عنخ أمون) وقد أخرجه ( محمد بيومي) – رائد السينما المصرية – وكانت مدته ثمانية دقائق، ثم تلاه فيلم "حديقة الحيوان " من اخراج " محمد كريم " عام 1927 ، ثم أخرج " نيازى مصطفي " عددا من الأفلام الدعائية " لشركات بنك مصر " عام 1936 ، كذلك أخرج المصور السينمائي مصطفى حسن " فيلم (الحج الي مكة) عام 1938 ، كما أخرج صلاح أبو سيف فيلما عن "وسائل النقل في مدنية الإسكندرية" عام 1940، إلا أن كل هؤلاء تحولوا بعد ذلك إلي إخراج الأفلام الروائية وأصبحوا أعمدة السينما المصرية.
اختلاف....
"الهامش" ليس نقيضا ل"المركز" ولكنه اختلاف عنه وكشف له "والكشف" صفة تجمع بين "الفيلم الوثائقي "و"الهامش" لذا يمكن اعتبارهما معا يحملان لغم الحقيقة الذي ينفجر في مواجهة "الإقصاء" الذي يتعرض له الهامشيون المنجذبون تجاه المركز والمطرودون من جنته في الوقت ذاته، فضلا عن هامشية الوثائقي في اختلافه عن "الروائي الطويل"، فالأخير كاذب جميل وصادق في كذبه بتواطؤ مع المتلقي بينما الوثائقي يعالج واقعا ويرصد حقائق تتراص متتابعة لتشكل جملة جديدة تكشف حقائق جديدة نراها وما كنا لنراها لولاه.
ولكن ما الهامش والمهمش؟
طرق الكتاب حال المهمشين وخاصة في الرواية الأدبية والتي انعكست فيما بعد علي الشاشة السينمائية، وان بقي الكتاب في كل أحواله سابقا على الفيلم ورمزا دلاليا للثقافة علي مر العصور مهما تراجعت أهميته.
وفي عصور التراجع الثقافي العربي كانت الدلالة واضحة، إذ اتسع الهامش وضاق المتن رغم أن البديهي هو أن المتن هي ما يؤخذ به ويقرأ ويقتني من أجله الكتاب لكن عصور التراجع العربي الأولى لم تشهد اختراعا يسمي "كاميرا الديجيتال" يتيح للمهمش قدرة معتبرة على التأثير في المركز وفضحه تماما.
وهو ما يؤكده الكاتب المغربي عبد السلام بنعبد العالي في مقال له قائلا: " ربّما استطعنا أن نؤكّد أنّ الثنائيّ هامش/مركز جاء ليحلّ محلّ ثنائيّ آخر هو الثنائيّ يسار/ يمين بعد أن كشف هذا الأخير عن شحنته الميتافيزيقية، وبعد أن تبيّن أنّ ما كانت تقيمه التيّارات الأيديولوجية من معسكرات متخارجة تضع في إحدى ضفّتيها ما تصنّفه يمينا كي تضع في الأخرى ما يشكّل يساره.
تبيّن أنّ ذلك التقسيم الذي لا يحدّد أحد الطرفين إلا بالنسبة للآخر، ربّما لا يخرج عن الإشكالية نفسها. صحيح أنّها إشكالية ذات وجهين، وجه يمينيّ ووجه يساريّ، إلا أنّهما قد يغدوان، بل غالبا ما يغدوان وجهين لعملة واحدة. وهذا ما أخذت تتمخّض عنه صراعات كثير من الأحزاب السياسية في مختلف البلدان حيث ظهر، وخصوصا في ظروف الاقتراعات والانتخابات، ظهر أنّ الخصومات التقليدية بين اليمين واليسار، سواء في مجال السياسة وحتى في الميدان الفكريّ، ليست بالتقابل الذي تظهر عليه في البداية، وأنّها مجرد "خصومات عشاق". تشهد على ذلك هذه الانتقالات و"التحوّلات" التي يعرفها ما كان يحسب على أحزاب اليسار حتى وقت غير بعيد.
ضدّ هذه التقسيمات ثنائية الأبعاد يضع مفهوم الهامش نفسه ضمن فضاء تعدّديّ. وهو لا يحدّد نفسه بأن يتّخذ موقعا مضادّا. فليست علاقة الهامش بالمركز علاقة متضادّين ولا نقيضين. فالهامش لا يقابل المركز ولا يقوم ضدّه ولا يناقضه، وإنّما يخالفه ويفارقه، فيكشف عن خلله. فهو لا يفهم نفسه داخل منطق التعارض، لا يفهمها داخل منطق ثنائيّ القيمة، حتى لو كان منطقا جدليا، وإنّما وفق "منطق" الاختلاف، أي وفق حركة تجعله "يسكن" المركز وينجرّ إليه ليشكّل فضيحته.."
ظاهرة قديمة...
والمهمشون وفق تعريف الأمم المتحدة هم الأشخاص الذين يتم تجاهلهم أو إقصاؤهم أو معاملتهم كأنهم غير مهمين " ورغم أن أغلب أنواع التهميش وأكثرها انتشارا هو الاقتصادي إلا أن ثمة تهميشا اجتماعيا يعتمد اللون أو الأصل العرقي أو الدين أو السلوك معيارا لتهميش الفرد أو المجموعة .
بهذا الفهم لمعني التهميش والمهمشين نكتشف أنه – أي التهميش – لم يكن أبدا ظاهرة جديدة لكن المصطلح هو الجديد والجديد أيضا هو التمييز والاهتمام الذي أولته السينما لهؤلاء المهمشين حديثا في كتاباتها النقدية وأفلامها التوثيقية وان ظهر المهمشون (طبقا للمفهوم السابق) في الأفلام السينمائية باعتبارهم أحيانا ضرورة لاستكمال فكرة الصراع الدرامي (إنها النظرة نفسها والأداء ذاته الذي تعاملت به سينما المركز سابقا).
والواقع أن العلاقة بين المهمشين والفيلم الوثائقي اتخذت منذ سنوات قليلة منحى آخر يصب في مصلحة الاثنين معا ويمنح الفيلم الوثائقي اعتبارا جديدا ويفعل من قدرة الهامش على التحول إلى فضح المركز بقدر اكبر.
وقد جاء ابتكار كاميرا الديجتال في بداياته كتكنولوجيا رقمية للتصوير تساهم في تسهيل الأمر وإضفاء جماليات جديدة على الصورة، ولكن انخفاض التكلفة جعل من صناعة سينما الديجتال في بعض المجتمعات مستقلة بذاتها لها نجومها وجمهورها وموضوعاتها المفضلة.
وما لبثت أن أفرزت تيارا من التطوير والابتكار العلمي التقني جعلت من هذه الكاميرا الرقمية في متناول المهمشين أو بالحد الأدنى ممثليهم في عالم الصورة ؛ فتجلى الفيلم الوثائقي في عالمهم وخرج إلى النور باحثا عن عيون ترى وأذن تسمع ولكن للمركز سلطته وله آلياته للمنع والمنح.
فحاولت السلطة في عدد من البلدان العربية" مثلا" أن تمنعه(فيلم عين شمس الروائي للمخرج المصري إبراهيم البطوط)، وبعض المهرجانات المتناثرة التي اشترطت السلطة مراقباتها من خلال جهاز الرقابة التابع للدولة أولا، لكن محاولات المنع في الحالات السابقة فشلت بامتياز ذلك أن التكنولوجيا الرقمية اتخذت هذه المرة موقفا واضحا ضد القمع وتضييق مساحات الحرية ومع المهمشين.
فقد اتحدت تجليات هذه التكنولوجيا لتجعل من كاميرا بحجم كف اليد شاهدا وقلما وتجعل من شبكة الانترنت ناشرا وآلة عرض لا تتوقف عند 1000 مشاهد ولكن تتجاوز هذا الرقم إلى الملايين عبر الفضائيات التي لا تستطيع سلطة الدولة منعها وأيضا عبر مواقع الانترنت التي تسمح بعرض هذه الأفلام بل تحول جهاز الهاتف المحمول إلى آلة تصوير لها إمكانياتها الفنية.
وأقيمت مهرجانات لأفلام الموبايل ( ألغى مهرجان أفلام الموبايل الثالث في مصر نظرا لرفض أجهزة الرقابة لإقامته قبل مراقبة كل أفلامه، ورغم ذلك فإن المضحك أن كل الأفلام تم رفعها على شبكة الانترنت وتمت مشاهدتها بكثافة عالية).
وهنا تحولت ترسانة القوانين المقيدة لحق المهمش في التعبير عن هامشه بكل تفاعلاته إلى ديناصورات وتحول القائمون على هذه الأجهزة إلى سيارات تدور حول نفسها ولا تقطع مسافات في أي اتجاه في لعبة عبثية تجاوزها الزمن لذا يمكن القول ببساطة وبدون مبالغة أن "الديجتاليين قادمون رغم أنف المركز".
كوميديا المهمشين...
حين يتسع الهامش وتضيق مساحة المتن وحين يزداد المهمشون إلى أعداد ونسب لا تصدق وتقتصر نخبة المجتمع على أفراد لا يسجلون نسبة تذكر منهم، فإنه من العبث أن نستخدم منهج القراءة الذي يصنف فئات المجتمع إلى هامشيين ونخبويين؛ ذلك أن الأمر ببساطة شديدة يعيد تشكيل نفسه بحيث ينفجر الهامش ويتجلى في حياة المركز، وهنا نتحدث عن ديمقراطية الطبيعة البشرية التي لا يمكن السيطرة عليها.
فانفجار العشوائيات في مصر جعل من المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم في مرحلة سابقة مطربا مفضلا لأفراح علية القوم( فهو مطرب مهمش تماما أمام نخبة ينتمي ذوقها الفني إلى الهامش).
وليس شعبان عبد الرحيم هو التجلي الأوحد للانفجار العشوائي ولكن التجلي الأكثر وضوحا هو موجه الكوميديا التي تعرضت لها مصر، فقد مرت السينما المصرية بعشرة أعوام كوميدية(1997-2007) أطلق عليها نقاد وسينمائيون "السنوات العجاف"، حيث فرضت الكوميديا اللفظية الفارغة من المضمون الرسالي نفسها علي سوق السينما والإنتاج السينمائي وجاءت بدايتها بالفيلم الصدفة "إسماعيلية رايح جاي " ليشكل نجاحه بداية الموجة نالت نجاحا كبيرا وحققت إيرادات غير مسبوقة ولكنها نالت بنفس القدر عداء شديدا من أغلب النقاد.
ورغم الملاحظات النقدية على هذه الأفلام يبقي فهم مبررات وجودها ومن ثم انتشارها واستجابة الجمهور لها مرتبطا بدراسة السياق الزمني في مجالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حيث بلغ التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي أقصى مدى له في المجتمع المصري وخاصة لفئة الشباب خلال هذه الأعوام ووصلت نسبة البطالة طبقا للإحصائيات إلى 18% وانخفض الدخل مقارنة بالأسعار، وضاقت الآمال حتى علي الذين يحلمون بالهجرة بعد أن أغلقت أبواب الدول الأوروبية أمام العرب والمسلمين في العالم إلي حد كبير لأسباب تتعلق بأحداث 11سبتمبر ونظرا لدخول مواطني الدول الاشتراكية السابقة سوق العمل في دول أوروبا الغربية ومع انعدام التمثيل الشبابي في مختلف المحافل المصرية.
انتخبت هذه الشريحة ممثليها في عالم الأحلام ليظهر أبطال مشوهون ومضحكون وبلا أية ملامح للبطولة فكانت النماذج المطروحة تتميز بالبلاهة والغباء الشديدين فضلا عن التشوهات الشكلية المبالغ فيها ما بين قصير جدا "محمد هنيدي" وطويل جدا "هاني رمزي "و"سمين جدا " علاء ولي الدين " .

كان إقبال الجمهور المصري على أفلام مثل "إسماعيلية رايح جاي" و"همام في أمستردام" و"صعيدي في الجامعة الأمريكية" و"غبي منه فيه" ومن بعدهم "اللمبي" وغيرها أشبه بإعلان التحدي من هذا الجمهور تجاه طرف مجهول ومعروف في الوقت ذاته.
وهو تحد صبياني يبدو لصاحب الخيال كأنه مشهد تعلن فيه فتاة مراهقة لوالدتها أنها سوف تمارس السلوك الذي تحذرها من ممارسته رغم علمها بكونه خطأ، فكان المراهق والشاب يتحدث عن المرة الرابعة لدخول الفيلم ، بينما أقصى طموح أي سينمائي أن يدخل المشاهد إلى فيلمه مرة واحدة، ونحن هنا أمام شخص يشعر بذاته في صالة العرض أو يغيب عن ذاته التي يتلمس لحظة غياب عنها في ضحك متواصل بلا معنى، ببساطة أكثر لدينا فئة تم تهمشيها بقسوة شديدة وفي ظل الصمت الذي فرضته على نفسها خوفا أو استسلاما وفرضته عليها السلطة جلدت ذاتها بالتوحد مع نماذج مشوهة تقول ولا تقول شيئا.
ولعل الحراك السياسي الذي بدأ في مرحلة متأخرة من هذه الأعوام العشرة العجاف هو ما ساهم في إعادة التوازن للسينما إلى حد كبير ولجمهورها أيضا.
جمال الهامش...
ما الذي يمكن أن يضيفه المهمشون إلي الفيلم الوثائقي والروائي باستثناء الكشف وطلب الرحمة والتحريض؟ هنا يكمن السؤال السينمائي الأهم، وهنا تبدو الإجابة في مشاهد وأفلام استطاعت أن تقدم قبح الواقع في صورة جميلة وآهة الألم في سيمفونية رائعة واستطاعت أن تختصر عبقرية المهمشين في التحايل علي الحياة لسرقة لحظة الصفاء والسعادة من أنياب الفقر والبؤس والحرمان والنبذ .


ولعل حضور المهمشين في أغلب أفلام المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد يؤكد علي هذا المعني فها هو "الشيخ حسني " البطل الأعمى في فيلم "الكيت كات " يتجاوز هامشيته معانقا "ابنه" المهمش الباحث عن لقمة العيش بالهجرة المستحيلة بعدما يعزفان على العود ويغنيان معا.
وهاهو فيلمه التالي "سارق الفرح " يصلح نموذجا لطرح التفاصيل الإنسانية بكامل روعتها وهي آتية من قلب بؤس المهمشين وتدور القصة الرئيسية حول "عوض/ماجد المصري" الذي يحب "أحلام/لوسي" و يريد الزواج منها رغم ضيق حالته المادية فهو لا يستقر في حرفة و يلتقط رزقه من الشارع والمكان هنا هو عشش عشوائية فوق هضبة المقطم يتقاسم الجميع فيها الهواء والماء والسجائر وأحياناً الرغبات، أما "شطة/محمد شرف" العائد من الخليج بجهاز كاسيت وتليفزيون وكل ما يتطلب زواجه من أنثى يفرغ فيها شهوته، فقد تجسدت أحلامه في "أحلام".
يوافق "المعلم بيومي/لطفي لبيب" الذي يعمل ماسحاً ومشرفاً في أحد المواقف العمومية للسيارات على زواج "شطة" من ابنته فيجن جنون "عوض" محاولاً إنقاذ حلمه بالزواج من "أحلام" التي تحبه هى أيضا، يلح على "المعلم بيومى" مصطحباً صديقه "عنتر/محمد هنيدى" و"عم ركبة/حسن حسنى" و أمه محاولاً عقد إتفاق للزواج من "أحلام"، من هنا تبدأ رحلة الفيلم الأساسية والبسيطة جداً، على "عوض" من الآن و فى خلال 10 أيام أن يأتى بـ (غويشتين دهب عيار 18 مش 14) كما اشترط عليه "المعلم بيومى" ليتزوج "أحلام" وعلاقة "أحلام" بـ "عوض" علاقة قديمة منذ كانا طفلين فى العشش لكنها مركبة يختلط فيها الغموض بالرغبة ووحدة المصير باستحالة اللقاء.

ويحفل الفيلم بالشخصيات الهامشية التي كتبت وصورت بمزاج أدبي يميز سيناريوهات وأفلام داوود عبد السيد ومنها شخصية ""عم ركبة" العجوز الحالم المعجون بشبق الشيخوخة. فهو يحب "رمانة" - أخت "أحلام" - حباً جارفاً و"مطر أو فتحي عبد الوهاب" - شقيق "عوض" – الذي، يعمل طبالاً فى أحد الملاهي الليلية، رأسماله الوحيد طيلة 3 أعوام قضاها طبالاً عبارة عن مجموعة ملابس وأحذية يختارها ويحافظ عليها باعتبارها واجهته فى العمل، ومضحياً فى سبيلها بأجره كاملاً ."مطر" يعود إلى منزله فى الصباح الباكر لينام بعد ليلة منهكة، كان "عوض" قد سرق كل ملابس وأحذية أخيه ليبيعها متحصلاً على بعض نقود تساعده فى رحلته. يبلغ "مطر" الشرطة متهماً "عوض" بالسرقة، باكياً أشد البكاء فى حسرة على ضياع حصيلة عمله، لكنه يتنازل عن البلاغ الذي قدمه حين يدرك عبث الموقف وأن مكان إقامته الوحيد هو السرير المجاور لسرير "عوض" فى نفس العشة. يخرج من قسم الشرطة باكياً بعد أن تلاعبت الحياة بمتعته الوحيدة , الحياة ربما تكون جميلة مغرية مفتوحة شهية غامضة لكنها لم تكن أبداً عادلة.
أما المخرج الراحل رضوان الكاشف فقد جعل من تحفته الفنية "ليه يا بنفسج " شهادة حية لأولئك الذين يسعدون الناس ليلا بالغناء والرقص في المناسبات ويعيشون بؤسهم الخاص جدا نهارا لكنهم يبتهجون في لحظات يسرقونها من عمر هذا البؤس ".
وفي فيلمه التالي "الساحر" يبكينا قبل ان يبكي ساحره الذي فقد صلاحيته في عمله فعجز عن العيش وعن إثارة اهتمام جمهوره لتصبح ابنته فريسة لواحد من ورثة الكبار ويجسد المخرج مجدي أحمد علي في فيلمه "خلطة فوزية " عبقرية امرأة وإرادتها الحديدية في التواصل مع الحياة حتى ولو تزوجت خمس مرات بحثا عن السعادة المستحيلة وسط ظروف لا تصلح للعيش من الأساس.
إغراء..
ما الذي يغري السينمائي في تصوير حياة المهمش؟ أو ماذا يدفع أحدهم لتصوير حياة مومس أو متسول أو عامل نظافة أو فلاح أجير ؟؟
الحكاية بسيطة جدا إذا كان السؤال : ما الذي يغري أحدا من هؤلاء للاستمرار في نمط حياته من الأصل؟ انه –أي المهمش– على استعداد تام لتغيير حياته في أي وقت فليس فيها ما يغري بالاستمرار لكنها مشحونة بالتفاصيل المثيرة للسينمائي والمبدع فهؤلاء يعيشون في حزن جبلوا عليه .. ولا تسيل دموعهم إلا بتصعيد ميلودرامي مبالغ فيها وهؤلاء يعيشون في "نكتة" ولا يضحكون منها لذا لا يضحكهم إلا ما يجعل الآخرين يسقطون أرضا من شدة الضحك .. المهمشون – أي الأغلبية – يعيشون في الطرف الآخر من الضحك والحزن والحلم ..يعيشون في الفن تقريبا .



نشر في موقع الجزيرة الوثائقية

تعليقات

‏قال eman said
عوداحميدا سيدى
مبروك المدونة الجديدة وعقبال ال جاية ....

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Three dreams

في "آخرة " كلينت ايستوود .. حياة تدور كلها حول الموت ليست حياة